الجلوس في الطائرةالاماراتية عند الكرسي المصفوف جوارالنافذةشبه البيضاوية متعة نظر، ترتفعتاركة مدرجها البغدادي، بسرعة عالية، كأنها تَعْبُرُزمناًأقترب من أن يكونثلاث عقود ونصف، لم يتغيرفي وقعه البطيء مدرج الهبوط والاقلاع ولا قاعات المسافرين وديكورهاالجميل، اسطوانات بيضاءتتدلى من السقوف بهدوء ناعس، ولم تتغير كذلك أساليب المعاملة وتشابه الأسماءفي سجلات أمنٍ تورمت من كثر الأسماء.
تأخذ مسارها ارتفاعاً موصولاً فتتوالى المشاهد، أرض جرداء يبست فوق ترابها الحشائش والأشواك، قصور كانت رئاسيةتبدو حزينة تشكو الإهمال، نبت القصب على حافات بحيراتها الصناعية،فهرب السمك الشبوط منمياهها الراكدة.مشهدٌ فيه استدراج لمحتوى الذاكرة أشبه بالقسرييُعبرُ عن ماض كئيب كان محبوساً بين جدران، ألوانها صفراء مغبرة، ينوهُ عن حاضرٍ لا يقل عنه اكتئاباً، تنطلق صيحات أصحابه منفلتة من فتحات كأنها أبقيت عمداً في الجدران لتصريف أنينأهل العراق.
سماءُبغداد وقت الاقلاع عصراً، صافية تغطيها سحابة لم تكن غيماً، ولم تكن كذلك دخان، قال صاحبيإنه وهج الحرارة ولفح الهواء الجاف، يختفي ليلاً فيعطي بغداد وسعاً في النظر هو الأحلى من النهار. قلتومع هذا تبقَّ بغداد فتاة هي الأحلى تعشقها مجبولاًفي الليل وفي النهار.
ساعتان وبضع دقائق تحط الطائرة فيدبي، يختفي الماضي وغشاوة التاريخ،تظهر الحداثة متمثلة بمطار عُرفَبشدة الازدحامدون ملاحظة أي ازدحام، يستوعب خمس وسبعون مليون مسافر سنوياً،كبيرفي حجمه وتنظيمه وأسواقه الحرة، وعماله الآسيويين، وفي حركة الطائراتالتي تمر من خلاله آلاف تربط شرق العالم بغربه، تدركها من لوحات عرضٍ للحركة القادمة والمغادرة موزعةً في كل مكان، وتدرك من خلالهاضخامة المطاروإن أدركتهحقاً ستتمنى عودة الزمن الى الوراء، الى يوم افتتاح مطار البصرة عام ١٩٣٦ يوم قيلَ عنه مطاراًسيربط أجزاء العالم وسَيُكْبِرُ من شأن العراق، وستسأل أين ذاك الربط من ربطٍقائم هنا والآن؟.
تمنى ما شِئتْ في هذا المكان، أو في غيره. كثيرة هي الأمكنة وشواهد الحداثة، وحسن الترتيب، والمحصلة مشاعر حيفٍ تختلط في ثناياها عوامل التعجب والحسرة وبعض أنين مكتوم، تدفعك بعد ست ساعات تأمل وانتظار أن تجر حقيبتك اليدوية ماشياً الى الطائرة التي ستحلق بك من دبي الى واشنطن لما يقارب الأربعة عشر ساعة متواصلة.في الطريق اليها تفتيش دقيق، يتراصف بعده المسافرون على آرائك قاعة المغادرة، لا تستطيع إحصائهم، فهم كثر والطائرة أير باص (Airbus A380)هي الأكبر في العالم،ستقطع في طيرانها المباشر الى واشنطن أكثر من أحد عشر ألف كيلومتراً،بحمولة ركاب يقترب عددهم من الستمائة مسافر.
تحركتهذه الطائرةعند الساعة الثانية وعشرون دقيقة صباحاً، رخٌأسطوري عند النظر الى الجالسين على مقاعدها نظرة فاحص من الأخير سيعتقد الناظر أنها من الضخامة لا تطير. حلقت في سماء تبدو من النافذة صافية لا تشبه سماء بغداد ولا تقترب من جمالها الأخاذ. التجوال فيها بين طابقيها يعطي الطيران على متنها بعض الغرابة. طاقمها يزيد عن العشرين يتبدل منتصف المسافة، لا يهدأ، يعملون وطائرتهم دون ضجيج،وفي ساعات عملهم قريباً من الأربعين ألف قدم عن الأرض تشرق الشمس، لتغيبثانية بعد سويعات وكأنكفيها تنهي يوماً قبل أوانه. يقدم الفطور خلالها مرتين وكذلك الغداء والعشاء، تشعر بالملل، وقليل من الورم في كاحل القدمين، يناشدك الجسم لا ارادياً أن تتحرك، ومثلك كثير يتحرك بين دهاليز القلعة الطائرة.
الساعة الثامنة صباحاً، يعلن الطاقم بلغة عربية سليمة الشروع بالاقتراب من مطار دالاس الدولي، تهبط بعد عشرين دقيقة، تلامس إطارات عجلاتها الاثنتان والعشرين أرض المطار التي اشترتها واشنطن من ولاية فرجينيا،تتيقن في توقفها عند خرطوم طويلأن الزمن هو منيتغير وسيأتي اليوم الذي يتحكم بوقعتغيره الانسان.