حطت طائرة الايزي جت في المطار الفينيسي قبل الظهر بقليل، مطار على حافة ماء، مدرجه واحد،هيئته تجمع بين المحلية والدولية، أسموه الڤينيسيونماركو بولو (١٢٥٤ – ١٣٠٤)وفاءً لتاجرهمالمستكشفالرحال،وتوجهله صوب الشرق قاصداً الصينوامبراطورها حفيد جنكيز خانأيام كانت الجِمال واسطة النقل والسفن الشراعية تبلعها البحار، وكتابته تقاريراً صلحت في وقتها شواهد تأريخ وجغرافية لمنتصف القرون الوسطى وما بعدها.
تقف وشنطة سفر تسحبها بيد اليمين عند تمثال له، تشعر باحترام لشخصه رمزاً لمدينة كانت يوماً جمهورية يحسب لها العالم ألف حساب، وقبل مغادرة موقعه مكتفياً بزهو العظمة يتقدم المخيلة بن بطوطة العربي المغربي عندما ساح وكتب ولم يخلده العرب بصالة مطارخارج سيطرة الدولة أو ميناء تتحكم بأرصفته مليشيات، وإن عُدَّ رجل زمانه الأعظم، وتتقدم معها لعنة مبطنة بدعاء فناء لثقافة سادت وأجيال استعاضت عن تسميات عظماؤها من هذا الزمان وذاك بأسماء رؤساء وقادة ثورات عادةما تختفي ذكراهم ونياشين صدورهم والشارات حال مغادرتهم دنيا الواقع مهزومين.
تلتفت خلفك وعيناك ممتد بصرها الى شواخص تاريخ وتماثيل عظام، تشعر وكأنك لم تكتفِ بالدعاء أو إن دعاؤك هذا قد أعادته الملائكة طعناً لنقصٍجاء فيه، فتزيدهابتسامة استهزاءً خبيثة من حضارةأمةتسعى لتخليد المقهورين وتذل العلماء.
وأنت كذلك تسير خطى محدودة الى الأمام تسأل شرطي عن مكتب قطع التذاكر الى فينيسيا باصاً أو قطار بعد تعطل مكائن القطع الآلي، يجيب دون جهد أو مقدار تفكير، أنه لا يعرف، ويتبين أن المكتب يبعد عن موقعه عشرة أمتار، تضع له عذراًمنقوعاً بحفنة تسامح ساذج،وتقطع تذكرةتوصلك حثيث الخطى الىموقع الباصالرقم (٥) المؤشر بوضوح.
السائق تجاوز سني الشباب خشن المظهر والبنية، قاسي الملامح كأنه من صقلية، أشيب الشعر، تسأله عن العنوان الذي ثَبَتهُفي هاتفك الخلوي مكاناً للوصول، وهل يبلغه الباص؟. يجيب بقدرٍ من العبوس أنه يصل الى آخر نقطة في اليابسة، وانه لا يستطيع الاستمرار في الكلام وهو في داخل مقصورة القيادة، تحس وقتها وكأنه ملتزم بالقانون،تميل الى الاشادة بسلوكه هذا الملتزم بالقانون، وتفاجئ في الموقف الثاني صعود رجل إيطالي يقف الى جانب مقصورته، يسأل وذاك السائق العبوس يجيب وكلتا يديه على المقود ورجله اليمنى على دواسة الوقود، متفاعلاً في الاجابةوالشرح وكذلك في نقاشٍلم يكن من بين مواضيعهأمراً يتعلقبالسياسة وإعادة انتخاب وزير سرق المال العام، ومحافظ تمرد على قوانين الدولة وعمل لنفسه تمثال ثائر خَوّافْ، ويستمر في كل هذا وهو مسرور يقود حافلته بثقة واقتدار وكأنه نجل سلالة حكمت القدس قبل صلاح الدين.يسكت قليلاً، وبما يسمح الالتفات الى الخلف والى العتب شبه المكشوف لسلوك منفر في مدينة سياحة عالمية، بطلها سائق باص متغطرسومدينة تعيش على السياحة والميناء، وتعود بذاكرتك القريبة الى شرطي المطار الذي لا يجيب،وشاب عرض المساعدة في نقل الشنطة الى الحافلة، يطلب مبلغاً لقاء مساعدته، لم تعجبه الخمسة إيروات، والى فلاسفة كتبوا عن اختلافالسلوك بين أهل الشمال البروتستانتي الغني وبين أهل الجنوب الكاثوليكي الأقل غنى والأكثر تخلفاً، وردهم ذاك الاختلاف الى عد العمل عبادة عندالبروتستانت، وعد العبادة عملاً عند الكاثوليك.
استنتاج يلوي الذاكرة يدفع موجوداتها باتجاه مناقشة الحاضرصمتاً والتوقف عند وصف العمل في الاسلام عبادة ومقارنة الوصف هذا مع سلوك غالبية مسلمي هذا الزمان وهم يغرقون في طقوس جعلت العبادة عملاً، بل سبيلاً وحيداً لدخول الجنة، أعطوه وقتاً أكثر وقيمة أكبر واقتنعوا طمأنةً بالمقسوم.
تتوقف الذاكرة عن نقاش الحاضر فالباص يمر على جسر الحرية،قال عنه سائح بريطاني يحمل خارطة وكتاب أنه الجسر الوحيد الذي تتنفس منه فينيسيا نسيم البر الايطالي، قديم أفتتحه موسليني عام (١٩٣٣)بطول ثلاثة آلاف وثمانمائة وخمسون متراًبممرين للسيارات رواحاً ومجيئاً، وآخر للقطارات، عند نهايته تبدأ فينيسيا مدينة عائمة فوق ماء.