قال سأقف على مكان كان يوماً دولتين،أُمَنْيَّ نفسي ومن بعدي بما آلت اليه دنيا الدولتين، فوضعَ قدمه اليمين في مكان ومد يساره الأخرى الى مكان،المسافة بين هذا المكان والمكان قدمٌ وبعض منه قليل هي العرض الفعليلجدارٍ عازلٍلعقدين وسبع سنينبين الدولتين أو بين النصفين لمدينة برلين. أصرَ على التقاط صورٍ لهذا الحال كمن يسعى لأثبات حاجة في نفسٍ لم يفصح عنها.بان من بين قدميه الممدودتين حجراً أحمراً رسم مسار الجدار الذي أراده الألمان الشرقيين سداً يمنع هروب الأبناء من شرقهم الشيوعي الىغرب ضنوا يوماً أنه جنة أحلام. تابع مسار الجدارداخلاً في شارع ليخرج من ساحةورصيف قديم، وقف أمام بقايا له، تخيّلَ تلك العوائل التي انقسمت بسببه نصفين وأقارب فقدوا عزيزين، بات يسمع أصواتاً كأنها أنين لمن تقطعت به أوصال القرابة، فعاود المشي من جديد مشغول عقله بتلك الأيام التي عاصرها أخباراً من بعيد، وقصص عوائل تدمي، بات شباك غرفة جلوسها فاصلاً بين دولتين، قفزت من ذاك الشباك سعياً جله مجازفة بالحياة لتلتحق بنصف عائلة تسجل وقعها مفقود.
توقف عند بقايا شواخص لنقطة حراسة كانت أمريكية في مقابل نقطة أخرى روسية شهدت أمتار المسافة بينهما توترات وأحداث وقصص وأفلامووقوفٍللرئيس الأمريكي كندي عندها قائلاً أمام جمهور قلق (أني برليني) بقصد الطمأنة من هواجس حروب أسهم هو ومن بعده في أنهاء حقبتها الباردة، وبانتهائها قفز الألمان الشرقيون من على الجدار، وضعوا سلالم وحبال،وتجمهروا آلاف هدموا بعض أركانه في أكثر من مكان لينهوا حقبة خوف، احتجوا على الخوف، رفعوا على عمود أقاموه في مكان نقطة التفتيش صورة جندي أمريكي قتل في المكان وفي الجهة الثانيةمن العمود صورة جندي سوفيتي كذاك قتل في المكان أرادوهما علامة فارقة لوأد الخوف،أبقوا أكياس الرمل التي استخدمت في جدران النقطة مصفوفة مثلما كانت في ذاك الزمان. هي وصور القادة الكبار وبنادق جنود وشكل دبابات متقابلة وحجم دمار يُزكم وبقايا خراب وضعوها شواهد حثٍ لأجيال المستقبل كي تبتعد عن الحروب.
سأل نفسه في لجة هذه الذكريات وشخوصهاهل يستطيع الأهل هناك في بغداد وعلى طول الحدود مع ايران والكويتوأماكن أخرى في داخل العراق أن يضعونبعض شواهد حروب تكون قادرة لتخليص نفوس أجيال بقيت مملوءة بحقد الحروب، وعندما وجد الاجابة في داخله نفياً قال، كفى فليل برلين لسعة بردوساحة الجندرمةقريبة، الوقوف عندها والكنيسة الألمانية والأخرى الفرنسية المتقابلتين يستحق المشيإجلالاً للتاريخ وللتسمية وفخامة بناء جاء بعضه تيمناً بالفرنسيين وزمن كان الألمان ينظرون اليهم قدوة تحضر، يقلدونهم في أعمال الفن والبناء، وتقديراً لدار الأوبرا التي بُنيت بينهما وما رافق عمرها المديد من عروض عالمية قدمت على مسرحها الكبير.
قال وهو ماشٍ الى بوابة (براندنبورغ) وشارع أمامها عريض أن برلين ليست مزدحمة، وأن بدأ عدد سكانها ينمو بمقادير ملموسة عكس مدن أخرى المانية باتت تشكو تناقصاً بسبب عزوف الشباب عن الانجاب.
أخذ من الأرصفة المزينة أرضياتها بأنواع من البلاط الاسمنتي الخشن والحجر الرملي الصغير، مساراً في الوصول الى تلك البوابة البرلينية التي انتصبت أعمدتها الاثنتا عشر عام ١٧٩١، قال لقدهدمت الحرب بعضأركانها وأعيد بنائها فيما بعد وكذلك العربة من فوقها والخيول الأربعة التي تجرها بعناد، كأن صاحبتها تنظر من موقعها الى ساحة باريس أمامها، كانت يوماً أرض حرام بين الدولتين الألمانيتين، والى شارع التسوق (انتر دين لندن) العريض حيث بنى المنتصرون الأربعة في الحرب على حافاته سفارات لهم، كانت الروسيةهيالأكبر مساحة وفخامة، تأتي بعدها الأمريكية ومن ثم البريطانية والفرنسية. قريب منها بقيَّالبرلمان الالماني رمزاً قاومحريق نشب عام ١٩٣٣ استغله هتلر لمهاجمة الشيوعيين وبناء ديكتاتورية نازية، وقاوم كذلك قنابل الحرب الثانية، ليبقَ النشاط فيه سياسة وإعادة بناء وترميم عدة مرات وقبة حديدية تحولت الى زجاجية كي يدخلها الجمهور ينظر منها عظمة المدينةورفعة إنسان وروعة فنان وأمة غيرت ثقافة حرب الى جهاد اقتصاد وعيشٍ بأمان.