حل المغيب مبكراً في برلين وهي تتجه صوب الشتاء، فأعطاها التوقيتنكهة ليل خاصة، أبقاها مدينة لها من التاريخ الوسيط حصة، وفي الحديث منه أكثر من حصة، كونتها الأقدار وفهم الشعوب لمصالحها في العيش الآمن والاستقرار،تجاوزت أصلهاقبل ألف عام مستعمرتان مستقلتان، متجاورتان كونتا مدينةعالية الشأن في ذاك الزمان، وتجاوزته مدينة مقسمة في هذا الزمان لتعود مركزاً عالمياً مرموقاً بين الأقوام.
برلين مثل غيرها أوربية النشأة والتفكير، وتسلسل الأحداث، أكلت منها الحرائق بعضٍ،وطالتها أمراض الطاعون بعضٍ، وكذلك الغزوات، لكنهاعملاقة من يومها الأول،لم تركع للعابر من أحداث ولا تؤمن بالأقدار، كأنهافي كون أراد لها أنتبقَ بعمر الشباب، وكأنها أضحت عصية على المشيب، لتعود بعد كل بعض تنبض بالحياة، عاصمةاختيرت للإمبراطورية الألمانية في عنفوانها، وحال أفولها ونفي امبراطور خسر الحرب الأولى أبت الا أن تكون عاصمة لجمهورية ألمانيةجديدة وكأنها لا تقبل الموت.
التوت قليلاً ساقها، عندما حَمَلْها هتلر توجهات انحياز ومفاهيم عنصرية وغطرسة مخبول ونقاوة لا أساس لها في مفاهيم التفوق والنوع.بسببه وخسارة النوع وفعل الحرب والتزام الخاسر بالتنفيذ دون جدال قُسمت غصباً بين أربع كبار (أمريكا، روسيا، بريطانيا، فرنسا) ربحوا الحرب ثم أضحت بسبب شكل الصراع شطران شرقياشتراكي شيوعي، وغربيرأسماليربحي، لكنها ذات نفسٍ طويل عادت من جديد موحدةً، أسقطت الجدار، أزاحت دشم الأسلحة والمتاريس، عادتعاصمة دولة نهضت من بين ركام الحروب وتنافس الكبار، لتكون شامخة باقتصاد هو الأقوى في أوربا ومن بين الأقوى في عالم جديد.
قيل لأهلها يوم خسروا الحرب، لا سلاح تنتجوه ولا عسكر يَستعرضُ في السوح، ولاحِلفٍ دوننا تقيموه. نفذوا الأمر بحذافيره وزادوا فوقه دفع تكاليف وخسائر تدمير وبعض اتاوات، صمتوا واتجهوا بدلاً عنكثر الجدال والتفريق والاستحواذ وكذلك القيل والقالوالنهب وتزوير الانتخاب الى العمل ليل نهار وتقوية الاقتصاد والصناعة واكثار المال، فكانوا الأقوىهمةً بلا جدال.
هكذا هم الألمان، يعملون بصمت، قليلي الكلام، لا يبتسمون الا بالوقت المناسب، جادون، يعيشون يأكلون، يشربون، همهمالأول فوق باقي الهموم اعلاء شَأن الدولة ومن بعدها تأتي الذات. لكن أهل برلين قيل أنهم قليلاً يختلفون، هم أكثر الألمان شعبيون، مرحون، وهم أكثر من تلقى الضربات يوم حلقت في سمائهم إبان الحرب العالمية الثانية أسراب القاصفات والقلاع الطائرة،لتأخذ من عمرانهم ثلث الأبنية والمشاريع والتراثالناقل للتاريخ، تتركه ركاماً والثلثان نصفها خراب.ضن يومها البعض، أنها قد لا تنهض من جديد، وان اريد لها أن تنهض سيستغرق هذا عدة عقود، لكنها نهضت من جديد في أقل من عقد زمان.
من يقف أمام جديدها وقديم بقيت منه أطلال، وشواهد جدران عافاها الزمن وَنُصبُتذكار ليس من بينها تمثال سياسي أفاق، ويعود بصورٍلذاك التاريخ عُلقَتْ بالمتاحف والكنائس وسوح الفرجة ومراكز البحوث، يشهد أن الحاصل في جله غير معقول، وقد تأخذه الذكريات الى واقععيش له في بلاد العراق وخمسة عشر عاماًمثل أعوام الفيل توقفت فيتخومها مشاريع البناء الا القليل، وعوضاً عن بناء يعد أكثر من مطلوبتناخى الأخوة من يعرب وخسرووآل عثمان الى طعن بعضهم ضرباً تحت الحزام لسمرة بشرة أو لسوء حال، وفوقها شَيَموا باقي الأقوام للاستقواء بهم على بعضهم لاختلاف نهج في التفكيروأصل لم تثبت جذوره بأي حال من الأحول.
أهل برلين بنوا كل ما تهدم وأضافوا له جديد، وأهلنا انشغلوا في بناء طقوس وخلاف مذاهب واختلاف أديان، وَحِرزٍ من ساحرة شمطاء، وخاتم حظ مجرب وقارئ كف دجال.
ومع هذا وعند التجوال في شرق برلين وغربها، يلمس المتجول فروقاً في الهندسة والبناء، ويلمس بقايا صبغة حكم شيوعي لقسمها الشرقيالشعبي ويلمس في ربوعه شوارع عريضة وبنايات متشابه واجهاتها وكذلك الشبابيك، وكتابات على الجدران، وساحة (كوت بس أور) مازالت مركزاً لتجمع وانطلاق اليسار في التظاهر والتعبير، ومطعم كباب لازانيقدم زاده بنكهة عراقية كردية.