يتحيّرالمسافر حقاً من أين يبدأ، وفي نيويورك يتحير أكثر.المدينة مختلفة تجعل البداية أصعب.قالت موظفة جميلة لفندق يتوسط المدينة، تكون البداية أسلممع مرشد سياحي، يعرفها حقاً ويعرف من أينيبدأ، حضر المرشد والحافلة وعصاً يؤشر بها وعليها يتوكأ، بدأ التجوال في حافلة سيرها أبطئ، دخل أول شارع ، قال شبكة شوارع المدينة هذه تعود الى عام ١٨٠١، أشر بعصاه الى مطعم سميث المتخصص بالستيك وهو الأغلى في العالم، قللمن سرعته عند مجمع لاثنتا عشر بناية بناها رجل المال الأٌغنى في العالم آنذاك (روكفلر) عام ١٩٢٩ وانتهى منها عام ١٩٣٦، حوت مجمع للاتصالات والتجارة الدولية ومسرح يتسع لستة آلاف مقعد وفندق لألفي وخمسمائة غرفة هو الاكبر، بعدهابان ميدان كولومبس وتمثال له في الوسط ومجمع حوله سكني، قريباً منه مركز لنكولن للفنون الأدائية، وقاعة المتروبوليتن بمقاعدها الثلاثة آلاف وثمانمائة مقعد، وفرقة الباليه الأكثر شهرة في العالم، وإعلان يغطي واجهة البناية لفرقة المدينة السمفونية،تحتفل بمرور مائة وسبع وخمسون عام على تأسيسها.
دق بعصاه على أرضية الحافلة، فهمها السائق اشارة إبطاء تقترب من التوقف،قال بألم شديد على هذا الرصيف وأمام هذه العمارة وفي العام ١٩٨٠ قتل جون لينون مغني وعازف وشاعر فرقة البيتلز على يد مجنون. سكت عن الكلام وأكتفى بإشارة الاستمرار، توقف بعد مائة مترعند مدخل سنترال بارك، رفع عصاه لنتبعه عند أرضية مدورة من الموزاييك، كُتِب وسطها نقشاً (تخيل)إشارة الى أغنية له مشهورة حملت الاسم ذاته. قال هذا المكان حديقة الفراولة سميت على اسم أغنية له أيضاً، والنصب وما حوله تبرعت به زوجته تخليداً لذكراه، فَسحَ المجال لالتقاط صور وقراءة لوحات، وسار قليلاً الى الامام، ليعرّفُ بهذا المعلم،حديقة غناء جميلة، غابة أعمار أشجارها طويلة، متنزه بوسائل وطرق مفتوحة، رئة تتنفس منها المدينة، يحوي مطاعم ومسارح وملاعب فسيحة، ومسارات مشاة وأخرى لأصحاب الدراجات الهوائية كثيرة، يدخله سنوياً أكثر من سبع وثلاثون مليون زائر.
رفع عصاه إشارة العودة الى الحافلة، جلس في مكانه على المقعد الأول، عاود الكلام عن معالم المدينة وتاريخها، مر قريباً من بناية الامبايرستيت، قال هذا المبني الأعلى في العالم لأربعين عاماً، يتكون من مائة وطابقين، يرتفع عن الأرض أربعمائة وواحد وأربعون متراً مع الهوائي، فيه اثنان وسبعون مصعداً، يزوره سنوياً ما يقارب الأربعة ملايين زائر، انتحر من عليه ومنذ افتتاحه عام ١٩٣١ واحد وثلاثون شخصاً.
أوقف الحافلة ثانية وسط المدينة، واتجه صوب مكان يضع له الامريكان قدسية، جعلوا منه محجاً للسواح ومزاراًلأهل المدينة، قال هنا كانت تقف شامخة برجا التجارة العالمية، هنا ضرب الارهاب ضربته في الحادي عشر من سبتمبر، ومن هنا بدأ التغيير في توجهات أمريكا صوب الشرق منبع التطرف.وهنا على هذه الأرض التي اهتزت ذاك يوم حزين بنو برجاً وأقاموا نصباً تذكارياً، نافورة ماء معكوسة، مربع محفور في الأرض يوحي وكأنه مدفن، داخله مربع أصغر ينزل الماء اليهما من الأعلى لينساب سريعاً الى الأسفل الى داخل الأرض التي ينتهي عندها الانسان، مصحوب بصوت يتخيله السامع موكب جنائزي، حولَ النصب من الأعلى حفرت على نحاس لونه داكن، أسماء جميع الضحايا... هكذا جعلوا لهذا المكان قدسية، وجعلوا منه معلماً سياحياً. تكلم بعدها عن محال تجارية أشار الى بروكسبرذرقال تحول المتجر ومتاجر أخرى لأيام مركز تجميع لضحايافقدوا حياتهم وتضميد جرحى أنقذت حياتهم، أشاد بتعاون الجميع في ساعات شدة لم تشهد لها أمريكا مثيلاً في عصرها الحديث.
سار قليلاً، يلهث من عمر أخذ منه مأخذاً توقف عند بناية وصفها بالمكواة، ترتفع عالياً لتأخذ لها نصيباً في الأرقام القياسية، تتوسط ثلاث شوارع، جبهتها الأمامية مترين وجبهتها من الخلف عشرين متراً، عند النظر اليها من الأعلى يصح وصفها بالمكواة. قلت لصاحبي بعد النظر اليها لِمَ نمتعض عند النظر الى بغداد التي تجزأت بيوتها بيوتاً واجهتها ثلاث أو أربع أمتار، الحاجة تفرض نفسها والمثل المصري يصح ذكره (مفيش حد أحسن من حد).