الـمـقـــدمــة
تسعى المجتمعـات البشرية إلى تنظيم شؤونها وإدارة مؤسساتها بطرق وأساليب متعددة تبعاً لنظمها السياسيـة وخبـراتها الحضـارية وفـاعليـة مجتمعـاتها البشرية، إدارة مرنة نمت وتطورت أشكالها عبر السنين ( لغـايـات مؤداها رضا الإنسان واستقراره اقتصادياً وأمنياً واجتماعياً ) لتصل المتطورة منها في مجال التعامل السياسي واتخاذ القرار إلى تطبيق التعدديـة الحزبية اسلوباً ينم عن اتجاه لتنظيم علاقة الفرد والجماعة بإدارة الدولة ومؤسساتها ومسعى لتقدير مستوى مشاركتهما بقراراتها الهامة ومنها السياسية على وجه الخصوص، وبذا أصبح هذا الاسلوب ( التعددية ) منهجاً عصرياً ملائماً لحاجات الإنسان ورغباته ومنحاً فكرياً تجاوز أو اجتاز مرحلة التوجس لكثير من المجتمعات البشرية خاصة بعد فشل الإيديولوجيات الأخرى وأساليبها المناقضة للتعددية مثل ديكتاتورية البلوريتاريا عند الشيوعيين والمركزية الديمقراطية عند البعثـيـيـن وسيطرة الصفوة عند الملكيين (الشرقيين) وغيرها من أساليب تقع على نفس المنوال أسهمت في تقييد حرية الفرد وتعطيل تفاعله مع مقتضيات العصر، وكذا عزل مجتمعاته المعنية عن معطيات الحضارة الحديثة لأنها أساليب تفضي بمحصلة تطبيقاتها النهائية إلى تكبيل الإنسان وتقييد هامش حركته ومن ثم سلب إرادته وذلك بجعله ترسا في آلة تدور رغم إرادته أو بمعنى آخر، دوراناً لا يتوقف على مستويات رضاه أو مقدار إنجازاته لأن دورانها غير خاضع لمعايير الجدوى وضرورات القياس والتقييم من ناحية، وكون المطلوب في معظمه دوراناً يؤدي إلى ديمومة الحركة أي استمرار النظام القائم من ناحية أخرى، وعلى العكس من مجتمعات آمنت بتعددية الآراء وتوزيع السلطات فكان دوران آلتها محسوبة نتائجه حسابات دقيقة تنعكس آثارها إيجاباً على الفرد والمجتمع في آن معا.
هذا وعند التنويه إلى أن مثل هذه الأساليب نمت وتطورت عبر الزمن فانه يعني من جانب آخر أنها - أي الأساليب المذكورة - قد خضعت إلى التجريب لفترة من الزمان ليست قصيرة وأن نموها كان تدريجيـاً ومصحـوباً بمعالم التحوير والتعديل على وفق حاجات الإنسان ورغباته المشروعة وصولاً إلى صورتها التطبيقية الملائمة في وقتنا الراهن، ويعني أيضا إن الشعوب التي جربت الوصول قد عانت ( خلال التجريب ) كثير من الأزمات وقدمت عديد من الضحايا أوصلتها إلى مستوى القبول بها ( التعددية ) اسلوباً للتعامل مع أكثر الجوانب أهمية وصلة بحاضر الإنسان ومستقبله.
النظرة الإقليمية للتعــــــــددية
التعددية اسلوب للتعامل مع بعض جوانب إدارة الدولة ونظام الحكم مطبق لدى كثير من دول العالم في عصرنا الحالي لكنه وبنفس الوقت نهج تفكير تستبعده العديد من الدول الأخرى أيضاً. وبالمقارنة البسيطة بين من يطبق التعدديـة وبيـن من لم يطبقها أو بمعنى أدق بين ما وصلت إليه المجتمعات التي آمنت وعملت على أساس التعددية ( من حيث التطور والرقي والاستقرار والعدالة والمساواة والاكتفاء والرضا ... الخ من متطلبات الحياة العصرية ) وبين المجتمعات غير المؤمنة بها نرى وبوضوح لا يقبل الشك أن الفارق في إطارهما كبير جداً ولمستوى يثير البؤس والتشاؤم ، وإنه كذلك يثير الدهشة والاستغراب خاصة في مجال النظرة للإنسان.
إذ ترى المجتمعات المؤمنة بالتعددية إن الإنسان هو الغاية ولابد من العمل لتأمين حاجاته وتحقيق إنسانيته بالأساليب التي تناسبه، بينما يحصل العكس في المجتمعات غير المؤمنة بها، إذ تضعه في معظمها وسيلة لتأمين غايات أخرى يتعلق كثير منها بالحاكم ومكاسبه الشخصية. ومن هنا جاءت نظرة هؤلاء الحكام إلى الحكم وإلى أساليب التعامل مع الإنسان في دولهم نظرة أحادية ضيقة تغلب عليها الرغبة في التملك والسعي للتشبث بالحياة المترفة والتمادي بمشاعر العظمة التي تحد بطبيعتها من مقدار مشاركة الفرد والجماعة في القرارات وتقييد حركتهم سياسياً واجتماعياً إلا بالقدر الذي لا يزعج الحاكم أو يقوض كرسيه في الحكم. وهذا يعني ابتعاداً محتوماً عن التعددية وتطبيقاتها الديمقراطية.
وما يثير الغرابة أيضاً عند استعراضنا لموضوع التعددية هو وحدة النظرة إلى الإنسان وتشابه أساليب التعامل معه في المجتمعات التي تبتعد عن تطبيقها، على الرغم من اختلاف شكل النظم السياسية القائمة، ولو أخذنا على سبيل الإيضاح منطقتنا العربية ( على اعتبارها من المجتمعات غير العاملة بتطبيقات التعددية ) سنجد الصورة أكثر وضوحاً عندما نتلمس أن غالبية أنظمتها ملكية كانت أم جمهورية، مشايخ أو سلطنات، تقدمية أو رجعية، اشتراكية أو رأسمالية، دينية التوجه أم علمانية تشترك معظمها - إلى حد ما - في تلك النظرة المشار إليها آنفا إلى الحكم وإلى الإنسان وحقوقه في المشاركة بإصدار القرارات على وفق مبادئ التعددية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن مقتضيات التحليل تضعنا بمواجهة جملة أسئلة لابد من الإجابة عليها إجابة علمية صريحة قد نصل من خلالها إلى الوضوح المطلوب في موضوع حيوي كموضوعنا هذا، منها:
هل تتحمل النظم المذكورة وحدها مسئولية تلك النظرة التي أدت إلى عدم الإيمان بالتعددية اسلوبا في التعامل مع مقتضيات حياتنا السياسية؟
هل يكون الملك أو الرئيس هو المعني الأول بالنتائـج التي وصـلـت إليها مجتمعاتنا في مثل هذه المواضيع؟
هل نحن أبناء المجتمع بأجيالنا المتعاقبة نتحمل العبء الأكبر من المسئولية في هذا الجانب الحيوي؟
لماذا اعتاد غالبيتنا تحميل الوالي ومن بعده الملك ومن ثم الرئيـس كل التبعات لمستوى تصورنا فيه إن بين يديه ( الملك أو الرئيس ) كل الحلول لكنه وبهدف تأمين مصالحه أو بسبب حقده علينا لم يقدم عليها؟
وقبل مناقشة الأسئلة أعلاه أو الإجابة عليها إجابة منطقية يمكننا أن نطرح أسئلة من نوع آخر قد تقربنا من الصورة وبوضوح أكثر هي:
هل يعقل أن يصل الملك بإعداده المتوازن ودستوره الثابت إلى حد العمل المتعمد بالضد من اسلوب عصري في التعامل مع اكثر القضايا حساسية وأهمية ( التعددية ) إذا ما طبقه بالشكل الصحيح لا يمكن أن يفقده عرشه ( لأن هناك ممالك في دول أخرى تعمل باسلوب التعددية منهجاً في تعاملها مع مقتضيات السياسة وتفسح المجال واسعاً أمام مواطنيها للمشاركة في كل جوانبها وهي رغم ذلك تتفوق في استقرارها على العديد من النظم الجمهورية) ؟
وفي نفس الاتجاه هل يصدق أيضا أن يكون رئيس الجمهورية ثائراً كان أم منتخب انتخابا ثوريا (بنظرته الوطنية واتجاهاته التقدمية ومساعيه الحثيثة للتغيير نحو الأحسن … الخ ) بالضد من طرح الآراء المتعددة وتطبيقاتها العملية التي كثيرا ما نادى بها واستخدمها مثيراً أو مثلبة على السلطة الحاكمة إبان نضاله قبل اعتلاء سدة الحكم؟
بماذا نفسر اندفاع غالبية العاملين في الساحة السياسة بمنطقتنا أشخاصاً وأحزاب وتجمعات وهم خارج الحكم إلى الدعوة الملحة لإشراكهم فيه ( من مبدأ التعددية ) بينما يكافحون ضد إشراك غيرهم به وهم قيّمون عليــــه ( من مبدأ الضرورة أو مقتضيات المصلحة العامة )؟
لماذا يشترك معظم رؤساء المنطقة وملوكها ومخـّضرموا السياسة فيها بنفس الاستجابة المناوئة للتعددية أو يتوحدوا بالرأي منها بينما لم يستطيعوا إيجاد أرضية مشتركة أو وحدة بالكلمة للعديد من قضايا الأمة المصيريـة التي تتطـلـب ذلك بالفعــل؟
إذا كان رأي الملوك في هذا المجال يثير الدهشة واتجاه الرؤساء في جوانبه يثير التوجس وسلوك السياسيين والأحزاب الثورية واللبرالية يعبر عن الاستغراب، فبماذا نصف استجابة البعض غير القليل من أبناء المجتمع في تعاملهم مع الحكام والسياسيين، وأين يمكن وضعهم وما هو مقدار تأثيرهم على إمكانية تطبيق التعددية وهم يقدمون صورة سيئة للسلوك الانتهازي الانهزامي الذي يفسره أو يعدّه الحكام معياراً لصواب فرديتهم وصحة ابتعادهم عن التعددية مثل:
1. المغالاة في التعبير عن الفرحة بوجود الحاكم لشريحة ليست قليلة من المجتمع لمستوى قيام نسوة في خريف العمر وشيوخ لقبائل معروفة وموظفين مرموقين مثلا بترك وقارهم جانبا وتجاوز قيمهم الدينية والاجتماعية، والاندفاع رقصاً بهستيريا لا مثيل لها في حضرته ( الملك أو الرئيس أو الأمير ).
2. تجرأ أعداد من الأساتذة الجامعيين لتحوير بحوثهم الأكاديمية أو تكييف نتائجها بما يخدم الحاكم ونظام حكمه.
3. ارتكاب نسب ليست قليلة من الآباء جريمة الكذب على أبنائهم فيما يتعلق بأعمال الحاكم وسياسته، وقبولهم ببساطة أن يتربوا( الأبناء ) تربية مليئة بالكذب والرياء والانتهازية المقيتة وهم يعّون جيداً الثمن الذي سيدفعونه لاحقا.
4. خيانة بعض الضباط لشرف مهنتهم عند قيامهم بتدمير قرى أبناء وطنهم وسحق من يطالب بحقه منهم وكذا بصياغتهم مواقف غير موجودة وتعبير معلومات خاطئة إلى قيادتهم طمعا في ترقية قبل أوانها أو طلبا لهدية مالية يعرفون تماماً أنها اقتطعت من الأموال العامة.
5. ظلم كثير من رجال الأمن لأبناء جلدتهم وعدم تحسسهم بوخز الضمير عن إقدامهم على اغتيال أقرب الناس إليهم أو بتلفيقهم تهم لأناس أبرياء اختلفوا معهم لأمور شخصية.
6. انتقاد أعداد ليست قليلة من الحزبيين لإجراءات حزبهم الحاكم، وحكومتهم الحزبية ( في جلسا تهم الخاصة ) وتنفيذهم لأوامرها تنفيذا جيدا وبتطرف يصل حد قيامهم بإعدام أبناء عمومتهم والأقرباء على الرغم من قناعتهم بأن التهم الموجهة إليهم لا تستحق ذلك بأي حال من الأحوال.
7. لجوء البعض وبأعداد غير معقولة إلى بيع ضمائرهم بأثمان بخسة عندما يسارعوا بكتابة التقارير الملفقة عن معارفهم والأصدقاء مع علمهم المسبق بأنها أعمال قد تؤدي إلى الإعدام.
8. قيام العديد من أئمة الجوامع بدعوة الله عز وجل و بأعلى أصواتهم أن يحفظ رئيسهم الظالم ويطيل من عمره رغم معرفتهم التامة بعدم جواز مجاراة الظالم من الناحية الدينية ... الـــخ من عينات السلوك السلبي التي تثير الكثير من الاستفسارات، وعلامات التعجب والاستفهام في مجتمعنـا العربي بشكل عــام والعــراقي في زمن صدام على وجه الخصوص والتي أدى التمادي فيها إلى اعتقاد الحاكم بصواب رأيه كما أسلفنا وإلى الابتعاد عن احتمالات التدخل أو المشاركة ولو من بعيد في قراراته المتخذة.
أما تحليلها تحليلاً منطقياً فسيلقي الضوء ليس على أسباب عدم تطبيق التعددية أو تحديد المسؤول عن ذلك فقط وإنما عن أمور عديدة مثل كبت الحريات وضياع العدالة وغياب المساواة وخرق حقوق الإنسان والتمادي بالتبعية وغيرها الكثير من الأمور ذات الصلة المباشرة بالإنسان والمجتمع ومصالحهما الضرورية.
وعلى وجه العموم فإن تحليل مثل هذه القضايا المتشعبة وقياس مدى انعكاسها على تطبيقات موضوعنا الخاص بالتعددية وتقدير مسؤولية الحاكم والمحكوم في تنفيذها لابد أن يأخذ بنظر الاعتبار وجهة النظر الاجتماعية التي تؤكد أن الحاكم أي كان توجهه أو اتجاهه ونوع الحكم الذي يديره هو إنسان له تركيبته الخاصة وغرائزه، وميوله المحددة وطبيعـة ضميره وغيرها من الخصائص التي تحدد سلوكه في الزمان والمكان المحددين، وعلى ضوئها أي خصائصه نراه ينتشي فرحاً لمشاهد الصور التي تملأ الشوارع مشيرة إليه بطلاً عظيما يخلد التاريـخ أعماله الفريدة، وهو الذي يطرب فرحاً لأصوات الفنانين تشدوا باسمه، وقصائـد الشعراء تمجد إنجازاته، وغيرها من عوامل الدعم المعنوي المفرطة. وبالمقابـل نراه وعلى وفق تلك الخصائص أيضا يغضب لكلمة انتقاد أو عبارة تقويم ويحـقد في ساعة غضب ... الخ من دوافع الانفعال السلبي. وهذا بطبيعة الحال سلوك شائع أو مرغوب لدى العديد من الحكام أو الساعين إلى الحكم على حد سواء، لكنه أي السلوك المذكور وأية أنواع أخرى منه لا تحدث أو تخرج إلى حيز الواقع والتطبيق بتأثيرات جانب واحد ( شخص الحاكم ) لأنها عادة ما تكـون محكومة بضوابط قوامها القيم والأعراف والتقاليد والقوانين والحقوق ومشاعـر الناس واتجاهاتهم وآرائهم ومعتقداتهم وقدرتهم على التدخل، وغيرها من معطيات تحدد سلوك الحاكم وتقيد مـن اتجاهات نزواته غير العقلانية في المجتمعات المؤمنة بالتعددية. عليه يمكن القول إن قرار الحكام في تلك المجتمعات ( التعددية ) وسلوكهم في الوقت المحدد لم يكن خاضعاً لإندفاعات خصائصهم كعامل وحيد في ساحتهم العقلية، وبمعنى أكثر وضوحاً إن تصرفهم ومجمل قراراتهم تأتي من تفاعل خصائصهم الشخصية من جانب والضوابط المتاحة من جانب آخر، والضوابط في واقع الأمر محددات ومعايير يضعها المجتمع ويلتزم بها عموم أفراده بينهم الحكام والعاملين بالسياسة على حد سواء ومن ثم يدافعون عن تطبيقاتها.
وعلى وفق هذه الحقائق فإننا وفي إطار سلوك الحكام وهامش حركتهم في اتخاذ القرارات أمام معادلة طرفها الأول الحاكم نفسه بخصائصه المحددة، وطرفها الثاني المجتمع بضوابطه العامة، ومحصلة الفعل قراراً كان أم سلوكا ناتج عن تفاعلهما ( الخصائص والضوابط ) وحسب شدة تأثير كل منهما، فعندما تقل الضوابط ( أي يضعف تدخل المجتمع ) وتزداد الخصائص السلبية شدة عند الحاكم تكون النتيجة حكماً تسلطياً قمعياً كما كان صدام، والعكس صحيح أيضاً إذا ما وجدت الضوابط ( نشط المجتمع بتدخله ) وتعقلنت الخصائص تكون النتيجة حكماً ديمقراطياً عادلاً كما في الغرب.
إن تحليلنا سالف الذكر لم يكـن المقصود منه تبرئة الحكام في منطقتنا من جريمة عدم تطبيق التعددية لكنه في الواقع تنويه يرشدنا إلى استنتاج حيوي مفاده أن مجتمعنا بكل طوائفه وطبقاته يشاطر أولئك الحكام مسئوليتهم عن عدم تطبيقها ( التعددية ) اسلوبا لمشاركتهم في القرار لأن الكثير من أبنائه قد انسحبوا طرفاً مهماً من المعادلة تاركين الساحة لغرائز الحكام ونوازعهم تنطلق دون كوابح أو ضوابط عندها انفردوا أي الحكام بالرأي والسلطة بطريقة تتناسب شدتها طردياً مع مقدار الانسحاب المذكور. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى إذا كانت التعددية مسألة حضارية تنمو وتتطور وتنضج عبر مراحل التاريخ كما ورد سابقاً فإن عملية التسريع بحدوثها والاستفادة من خبرة الآخرين في مجالها مسؤولية لا يتحملها حكام منطقتنا فقط ( جمهوريين كانوا أو ملكيين ) بل هي مرهونة بفاعلية الشعوب وقواها السياسية المنظمة ( الأحزاب والحركات والجماعات والطوائف ) وكذا بنشاط مفكريها ومقدار تضحيتهم.
من كل هذا نصل إلى إن المجتمع بمكوناته يتحمل مسؤولية تحديد اسلوب تعامله مع السلطة على وفق التعددية حتى يمهد لحياة أفضل ملؤها الأمن والاستقرار أو يبتعد عنها فيرضى بالقهر والاستغلال على أسس الفردية الاستبدادية أو الحزبية التسلطية، وبالتالي يستمر بدفع المزيد من الثمن على طريق لا نهاية له.
ماهية الــتعددية وحاجة العراق إلى تطبيقاتها
إذا كان قرار الحاكم وسلوكه في كل المجتمعات البشرية لا يعدو محصلة للتفاعل بين طرفي المعادلة المذكورة آنفا فانه في مجتمعنا العراقي أكثر وضـوحا وشدة في ذات الوقت، إذ ترينا المراجعة البسيطة لأزمات العراق السياسية إبان حكم صدام للعراق الاضطراب الواضح في التعامل مع الأزمات الداخلية والخارجية وعدم الالتزام بمعايير الأعراف والقوانين الدولية والنكوث بالعهود والاتفاقات، والرؤية الآنية القريبـة على حساب النظرة السوقية المستقبلية التي تكونت جميعها بسبب طبيعة الإدارة الفردية السائدة من ناحية وانسحاب غالبية ابناء المجتمع عن فعل التأثير بها من ناحية أخرى، وتبين في الوقت نفسه الحاجة الملحة إلى التغيير السريع في البيئة الضاغطة من حولهم وخاصة ما يتعلق منها بشكل نظام الحكم، واسلوب إدارة الدولة وتسيير المجتمع لما وصل إليه الإنسان العراقي من بؤس وشقاء بسبب الكوارث المذكورة التي تسبب في حدوثهـا، على أن يلبي التغيير الحاجة إلى التوحد والاستقرار والأمان وينسجم ومقتضيات العصر وضرورات العيش فيه، وهذه أهداف وتمنيات إن تحققت يصعب الدفاع عن استمرارها إلا في إطار المشاركة الجماعية بالرأي واتخاذ القرار أي التعددية التي تأخذ بالاعتبار:
1. المشاركة التفاعلية بين كل الاتجاهات الموجودة على الساحة بصورة إيجابية وعلى وفق الأغلبية.
2. التوازن المرن بين السلطات الذي يبنى على أساسه التوجه الديمقراطي بعيدا عن احتواء الحاكم لحزب ما وكذا الحزب لمجموعة الأحزاب والحركات السياسية الانتهازية.
3. التوجيه النزيه القادر على بناء ودعم فكر وطني معقول للأحزاب العاملة في الساحة السياسية العراقية يتمحور حول إعادة بناء العراق وتأمين مصالحه في إطار منطقته العربية والإسلامية، ومن ثم الشرق أوسطية وهكذا باتجاه مناطق العالم الأخرى.
4. التعددية الدستورية التي تستند على ديمومة الحوار الإيجابي مع الآخرين بضوء المصالح الوطنية التي تؤطر مصالح الفرد وتحدد اتجاهاته الذاتية وتدفعه إلى الإيمان إن التعددية ومن ثم الديمقراطية منهج يلتزم بتطبيقه الحاكم المسئول ويؤمن به الشعب على حد سواء.
5. أن تفضي إلى أسلوب عمل يضع الجميع أحزابا كانوا أو جماعات في اعتبارهم أن الواحد منهم جزء من الآخرين وان الكل صفة تنطبق على الشعب بتركيبته الواسعة، وأن لأي منهم الحق في العمل بالوسط الذي يراه مناسبا لأفكاره وتوجهاته وان ذلك الوسط هو القادر على القرار فيما إذا كانت تلك الأفكار مقبولة أو غير مقبولة في إطار تأمين مصالحه، وعلى أساسه ( اسلوب التعددية ) يبدأ الكل معرفة حجمه التفاعلي الحقيقي قياسا لغيره الموجود على الساحة.
إن للتعددية وفي حالة تطبيقها حسب صورتها وسماتها المذكورة أعلاه كثير من الإيجابيات ذات الصلة بواقع العراق ومستقبله الآمن والتي بات العراقيون يدركونها جميعا دونما استثناء، الأمر الذي دفع المثقفين الوطنيين منهم وكذلك قوى المعارضة على اختلاف اتجاهاتها الفكرية إلى طرح تصورهم عنها ورغبتهم في تجسيدها على أرض الواقع معياراً للتغير نحو الأحسن. إلا أن ظروف العمل السياسي المعقدة وكبت الحريات وتقييد النشر والهامش المحدود لحركة ذوي الأفكار المنادية بها حال دون التوسع بوضعها مطلبا منطقيا على أرض الواقع التطبيقي لعملهم، وأبقى عموم العراقيين بعيدين نسبياً عن مناقشة جوانبها الحيوية وتأثيراتها الفاعلة في الحياة المعاصرة بعد أن باتت أمراً واقعاً وضرورة حتمية لكل المجتمعات المستقرة المتطورة.
وتأسيساً على ذلك يمكن التأكيد على أن معطيات المرحلة تحتم التأكيد عليها موضوعاً فكرياً حيوياً في وقتنا الراهن يمكن تقديمه للعراقيين بشكـل عام ومثقفيهم على وجه الخصوص بغية مساعدتهم على إنضاجه فكرياً والتهيـؤ للتعامل على وفق خطواته في المرحلة القادمة التي تتطلب أن يضع كل عراقي يده بيد الآخر شخصا كان أم جماعة، ومع من يسعى لإعادة بناء العراق بغض النظـر عن تفاصيل اتجاهاتهم الفكرية أو العقائدية وأن يخرجوا من مجال الانتقاد وندب الحظ ودائرة اليأس وكثرة التشكي بعدم جدوى العمل الذي وضعوا أنفسهم في مجاله أو وضعهم الآخرون فيه دون مقاومة منهم، وأن يواجهوا الحقيقة وما يتعلق منها بالمشاركة العادلة لجميع الأطراف بإزالة الخطأ ورفع الحيف عن كاهل العراقيين، مشاركة تمهد لهم السبيل إلى المساهمة الجدية بالانتخابات النزيهة وبوضع الدستور الدائم للبلاد واختيار رئيس الدولة والمحافظ والمجالس البلدية، أي أن يساهم كل واحد بوضع لبنة قوية في مستقبل العراق الذي لابد وأن يبنى على أساس تعددية الفكر وديمقراطية التعبير، ووفق منهج الشمولية الذي يضمن لكل فرد صوت ولكل حزب أو حركة أو جماعة أو طائفة عدد من الأصوات تحدد مقدار مشاركتهم في الإدارة وصنع القرار الوطني. وبمعنى آخـر أن يسعوا لأن يكونوا طرفاً فاعلاً في معادلة الحكم واتخاذ القرارات المذكورة سابقاً، كما هو الحال بالنسبة لدول العالم ومجتمعاتها الأكثر تحضرا. وهذه في الواقع من بين أهم التوجهات التي تساعدهم على التسريع في الوصول إلى التعددية والتخلص من رواسب الحكم الديكتاتوري الذي بدأ بشعارات الديمقراطية والحرية والمساواة، مروراً بدكتاتورية المؤسسة الحزبية، وانتهاءاً بتسلط الفرد الواحد وعائلته الممتدة التي تركت إرثاً ثقيلاً ووضعا خاصاً للعراق لا يمكن علاجه إلا بمساعي الجميع الموحدة وباتجاهاتهم المتنوعة ومن خلال التعددية.
هذا من جانب ومن جانب آخر إن العراق مجتمع يتشكل من قوميات مختلفة وأديان متعددة (على الرغم من أن الإسلام هم الغالبية المطلقة) وكذلك من مذاهب متنوعة، ومثل هذه المجتمعات مع وجـود التخلف الحضاري تكون إدارتها مسألة صعبة، والصعوبة هنا لا تأتي من ضرورات التوازن في الحقائب الوزارية والمناصب المهمة فقط ( على الرغم من إن تطبيق مثل هذه التوازنا ت على أرض الواقع ليس هيناً) بل ومن الرضا والقناعة على ما يحصل عليه أبناء كل طائفة أو مذهب بالمقارنة لما يحصل عليه الآخرون ( في الطوائف والمذاهب الأخرى ) وكذلك من خلال المشاعر الانفعالية التي يكّونهـا البعض باتجاه البعض الآخر والتي قد تتطور إلى مستوى الفعل السلبي عند غياب العقلانية والتوازنات الدقيقة في كثير من الأحيان. وهذه متغيرات كثيرة ومتشعبة يسهل إثارتها أو التحكم فيها عن بعد، ولنا في ذلك أمثلة عديدة من الدول العربية والإسلامية ومن تاريخنا العراقي القريب والبعيد أيضا، وعلى وفقها يمكن القول إن تجاوز هكذا صعوبات سياسية وإدارية يعود إلى شكل الإدارة الموجودة وأساليبها المحددة إن كانت ملائمة أو غير ملائمة للواقع المعاش.
وما دمنا في إطار المناقشة العلمية لبعض جوانبها علينا أن لا نتجاوز تجارب الدول والمجتمعات المشابهة لواقعنا من حيث التركيبة السكانية والاجتماعية، واتجاهات التعامل معها على وفق التعددية وتطبيقاتها الديمقراطية التي لبت متطلبات كل الطوائف والجماعات داخلها دون ما تمييز أو استثناء وبمستويات من الرضا والقناعة تعد متقدمة بكل المقاييس الاجتماعية. هذا بالإضافة إلى أن التعددية كأسلوب للتعامل وكمنهج فكري حضاري لا تقتصر آثاره الإيجابية على توحيد المجتمع الذي نسعى إليه بكل إمكاناتنا وإنما سيسهل تطبيقه إعادة بناء العراق ثانية وتمهيد ترتيب أوضاعه على الخارطة السياسية العربية والعالمية حسب مكانته التاريخية وقدراته الاقتصادية وموقعه الجغرافي، وتلك من بين أهم الأهداف التي ينبغي السعي إلى الوصول إليها بمعاونة كل العراقيين وبمختلف اتجاهاتهم الفكرية والمذهبية والقومية، وهي أهداف نعتقد أن المطالبة بتحقيقها لا يتجاوز إمكانات العراقيين البدنية وقدراتهم العقلية في الوقت الراهن وبأي حال من الأحوال.
الخـاتـمـــة
إن كانت ديمومة مجتمع قائم مستقر منذ سنوات كثيرة أمراً ليس سهلاً، والمحافظة على استقراره بحاجة إلى جهد غالبية أبنائه وتعاونهم تعاوناً جاداً، فما بال المجتمعات التي يجري بناؤها حديثا أو التي سيعاد بناؤها على اسس جديدة مثل العراق، فإنها قطعاً ستحتاج إلى بذل كل ما متيسر من طاقات وإمكانات وبمساحة زمنية قد تكون حرجة نسبياً وقد يتحمل الأبناء فيها أعباء لا قدرة لهم على تحملها بعد أن أعياهم تعب العيش تحت الضغوط لفترة زمنية طويلة، وأنهكتهم عزلة الابتعـاد عن التدخل في بعض جوانبها، من هنا يجري تأكيدنا المستمر على ضرورة الشروع بالتهيؤ للمرحلة القادمة التي ستحل بحكم تقادم الزمن وضرورات التطور وتدخل الوطنيين من أبناء العراق، تهيؤ في كل الاتجاهات بينه التطبيق الصحيح للتعددية بالاستناد على الخطوات الآتية:
1. التوسع في الدعوة إليها أي التعددية منهجاً فكرياً مستقبلياً لجميع الأحزاب والحركات السياسية بغية خلق الأجواء المناسبة لتطبيقها عند أول فرصة متاحة.
2. أن يؤكد الجميع على أن يشمل الدستور الدائم للبلاد نصوص لتطبيق التعددية وبفقرات تلزم الحاكم أي كان اتجاهه الفكري على السير بمقتضاها والالتزام بمعطياتها.
3. يتجاوز المعنيون بالفكر من الأشخاص والأحزاب والتجمعات والحركات السياسية والثقافية والاجتماعية اتجاهات العنصرية والطائفية والإقليمية في دعواتهم وأطرهم الفكرية.
4. أن يتهيأ الجميع إلى قبول حقيقة أن الرواسب السلبية لعشرات السنين وتأثيراتها المتشعبة على العقل الجمعي العراقي لا يمكن تجاوزها بمجرد تطبيق الديمقراطية والتعددية بل تقتضي الحاجة مرحلة انتقال يستعد فيها الجميع وبينهم المثقفون على بذل المزيد من التفاعل والعطاء.
وفي نهاية عرضنا التحليلي هذا يمكنا الجزم على أن العراق مجتمع فيه من مستلزمات إعادة البناء الكثير والفرصة بالشروع لم تنتهي بعد كما يعتقد البعض من المنسحبين أو الذين شعروا بالتعب مبكرا.
وكل ما مطلوب التفكير بضرورة الوقوف على خط الشروع سويــــة والأيدي مع بعضها البعض متكلينَ على الله بقلــوب مؤمنــة بالقدرة على التدخــل، خالية من الخوف، شـــاعرة بالمسؤوليــــة التضامنيـة التي ستؤسس أولى تطبيقات التعددية.
ومن بعدها سيرى الجميع أن حياة أفضل في الأفق يمكن الوصول إليها وبثمن أقل كثيراً مما يدفعونه باستمرار وضعهم الحالي على ما هو عليه.
11-11-1998