كونت حكومة صدام بإحتلالها الكويت في 2آب 1990 وإصرارها على عدم الانسحاب منه واقعا سياسيا مثيرا للتوتر والاضطراب في المنطقة التي تحددت من بين المناطق ذات التأثير المباشر على الأمن، والإستقرار العالمي، الأمر الذي أدى إلى:
1. إندفاع القوى الكبرى " أمريكا وبريطانيا " على وجه الخصوص التي تهددت مصالحهما إلى السعي للتدخل في المنطقة تدخلا عسكريا مباشرا مهد لتدمير العراق على وفق خطط مقننة لم تتوقف عند حدود تحرير الكويت، وإخراج قوات الحكومة العراقية منها كما هو معلن بداية حشد الجهد العسكري، وتكثيف التأييد السياسي فقط ، بل وأبقت بعد إكتمال فعل الإخراج قوات ومعدات عسكرية قريبة من حدوده الجنوبية، والجنوبية الغربية في الكويت والسعودية، وأنشأت منطقتي حضر للطيران جنوب خط العرض 33، وشمال الخط 36، مغطات بطلعات جوية قتالية شبه يومية لطائرات إحتفظت بتشكيلات لها في المنطقة بغية الضغط، والتدخل في شؤونه الداخلية بالزمان، والمكان المحددين.
2. قيام الأمم المتحدة بإتخاذ العديد من القرارات الدولية الملزمة التنفيذ بصيغ حاصرت العراق حصارا إعاده عشرات السنين إلى الوراء، وأعاق وتائر نموه في كل المجالات لعشرات أخرى، وتسبب في:
أ. إضعاف هيبة الدولة على مستوى الداخل حتى ثار بوجهها العراقيون العرب من أبناء الوسط والجنوب، والعراقييون الأكراد والتركمان، المسيحيون والمسلمون من أبناء الشمال في انتفاضة شعبان 1991.
ب. الإقلال من قدرها إقليميا حتى باتت تركيا على سبيل المثال تدخل بقواتها العسكرية وبما يشبه الإحتلال لمطاردة أنفار من حزب العمال الكردستاني في عمق الأراضي العراقية متى تشاء، دون التفكير ولو بإعطاء إشارة بسيطة لحكومة بغداد قبل بدء عملها غير المسبوق.
وأصبحت إيران ميالة لتكرار إرسال طائراتها الحربية داخل حدوده لقصف القواعد غير الشرعية لمجاهدي خلق دون الأخذ بالاعتبار وضع الدولة وملابسات ونتائج القتال الدامي بين البلدين لثمان سنوات مستمرة.
وبقيت السعودية منفتحة لدعم التيار الإسلامي داخل العراق بصورة شبه علنية، وإستمرت بالسماح للطائرات الغربية بمراقبة الأجواء العراقية وضرب قواعد الصواريخ المضادة للطائرات.
وكذلك فعلت الكويت، بالإضافة إلى مناداتها العلنية باسقاط النظام واستقبالها بعض قادة المعارضة العراقية بشكل معلن لم تفكر به من قبل.
ودفعت بالأردن الدولة العربية الأقرب إلى العراق طيلة الحرب مع إيران، وما بعدها إلى الدعوة الصريحة على لسان مليكها الحسين بضرورة التغيير، وإعادة بناء العراق ديمقراطيا.
ج. إضطراب وضع العراق دوليا، إذ جُمدت أرصدته الخارجية، وقُيدت أيدي حكومته في الصرف، وتَعطل تمثيله في بعض المنظمات، وتوقفت مشاركته في بعض الهيئات، وعُزل دبلوماسيوه في الندوات، وعُوملت جوازات أبناءه بإزدراء لم تشهده أقبح الأنظمة تنكيلا وديكتاتورية في العالم.
كانت تلك متغيرات شكلت مع معالم التأثير الأخرى للواقع المذكور أزمة سياسية تفاعلت مع أزمات أخرى دفعت إلى أن يعيش العراقيين حالة البؤس والشقاء والشعور بالخوف والهلع، وخرق النظام القيمي، وإختلال الاتفاق على وحدة أهدافهم الاستراتيجية، فكونت مع بعضها ضغوطا عليهم لم يسبق أن عاشوها، وحكوماتهم المتعددة منذ بدء تأسيس الدولة العراقية عام 1921. وهي أزمة أو مجموعة أزمات كانت شاملة لكل مناحي الحياة العراقية، وكانت أسبابها عديدة ومتداخلة ساهم فيها:
1. الإنسان العراقي الذي توزع تبعا لخصائصه وقدراته:
أ. فئة شاركت بإفتعال الأزمة من بين أولئك الحزبيين والانتهازيين وكبار القادة، والمسؤولين مدنيين وعسكريين.
ب. فئة أخرى قاتلت الحكومة سبب الأزمة، ودفعت حياتها واستقرار عوائلها ثمنا لقتالها الباسل سعيا منها للحيلولة دون وقوعها " الأزمة ".
ج. فئة أخرى عارضت أساليب الحكومة في أطالة أمد الأزمة بطريقة غير مباشرة حافظت بها على البقاء بأقل ما يمكن من الخسائر.
د. فئة رابعة هي الأكبر حجما ، تلك التي أرهقت الأزمة كاهلها وإستنزفت الضغوط طاقتها فبقيت متفرجة، وقد إختلطت على أصحابها الأوراق، إلا ورقة السكوت وإنتظار الفرج بإستخدمتها في غير مكانها وزمانها فأطالت أمد الأزمة.
هـ. فئة نوعية تركت الساحة قسرا، وأبقت عيونها باتجاه العراق ومشاعرها مع العراق تتحين فرص العودة بأقل الخسائر.
..... الخ من التقسيمات الفئوية التي تمتد طويلا بامتدات الخصائص الشخصية للإنسان العراقي وقدراته في التحمل والاستمرار.
2. التركيبة الإجتماعية العراقية ـ الطيف العراقي ـ الذي لم تعد في زمن الأزمة متجانسة، أو بالمعنى الأدق أن ضعف تجانسها أدى على سبيل المثال إلى:
أ. أحساس البعض من الأكراد وغيرهم من قوميات أخرى كونهم حالة خاصة، وأهدافهم خاصة لا يمكن أن يجتمعوا بسببها في السير معا وباقي العراقيين العرب، فإبتعدوا باحساسهم هذا عن المركز وعن توجهاته للتعامل مع الأزمة.
ب. شعور غالبية الشيعة في مرحلة من مراحل قتالهم ضد نظام الحكم الذي تسبب في وجود الأزمة أنهم وحيدين في الميدان، وإن قسما " ولو قليلا " من عرب الوسط، والشمال قاتلوا ضدهم خطئا أو أبقوا أنفسهم على الحياد بينهم ثوار من أجل العراق، وبين حكم صدام الذي استباح أرض العراق، فعملوا بعدها على تعزيز خصوصيتهم حتى في النظال ضد الأزمة.
ج. وهكذا كانت العشائر العراقية، والطبقات العراقية والقوى والأحزاب العراقية.
3. طبيعة حكومة صدام التي شكلت هرما منظبطا فيه الحاكم الفرد أعلى القمة يأمر بما يراه مناسبا لشخصه، والحكومة من بعده درجات، لا واجب لها سوى التنفيذ، ولا هم لها سوى التعظيم وإرضاء دوافعه الخاصة.
4. والأزمة العراقية التي عرفت بأسبابها الداخلية المذكورة وأخرى غيرها، لها أسبابها الخارجية التي يتعلق قسم منها بوضع ومواقف الدول المجاورة والقريبة إقليميا، والقسم الآخر بمصالح الدول الكبرى وأصحاب النفوذ السابقين والحاليين في المنطقة والتي يمكن إجمالها تحت عنوان، العوامل الدولية في الأزمة، وغيرها من العناوين ذات الصلة ستتم مناقشتها تباعا.
تؤكد نتائج الأحداث ذات الصلة بحرب الخليج الثانية، وتطوراتها أزمة العراق أن حدوثها لم يكن عرضيا بسبب مطالبة الحاكم في العراق ثمن حماية الخليج من تدخلات المد الثوري الاسلامي الإيراني، ولا باتهامه الكويت والامارات العربية المتحدة بتدمير اقتصاد العراق بضخها فائض النفط ، وتخفيض الأسعار، ولم يكن حدوثها كذلك نتيجة لإمتثال الكويت لنصيحة الأمريكان بعدم مجارات صدام في ضغوطه لإطفاء الديون ودعم الاقتصاد العراقي، بل وتأتي ضمن مخطط عدَّ منذ فترة ليست قصيرة، وإن مراحل تنفيذه قد بدأت مع حلول عام 1990 وما بعده الذي شهدت وقائعه إحتلال الكويت، وإنسلاخ بعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي، والانقلاب على غورباتشوف، ومن ثم إنتهاء الاتحاد السوفيتي، وإن الأسباب المذكورة وغيرها لم تكن إلا ألغاما جرى تفجيرها عن بُعد لإفتعال وتكوين الأزمة. خاصة وإن إشارات قد وردت في أكثر من مكان إلى أن سيناريو حرب الخليج قد وضعت أسسه ومخططاته بعد منتصف القرن العشرين، وبالذات في الربع الأخير منه، وقد تسربت بعض منها إلى الصحف لتُكتَب بصيغة مقالات وتوقعات، وإلى السينما لتنتج على شكل أفلام.
كما تبين تلك النتائج أيضا أن منطقة الخليج قد أختيرت ساحة للأزمة بحسابات تراها الدول الكبرى بطريقة قد لا تكون قريبة من تلك التي يراها أبناء المنطقة والقريبين منها أو يرضون عنها، وهذه مسألة يمكن إدراكها عند النظر إلى دوافع هذا الاختيار التي يتمثل بعضها بالآتي:
1. تتمتـــــــع منطقة الخليج العربي بأغزر إنتاج نفطي على مستوى العالم، وكذلك بإحتياط وفير يفوق غالبية الإحتياطات المعروفة في مجاله حتى وقتنا الراهن، هذه المادة التي عدها الغرب سلعة عالمية الطابع، ورأى في إستمرار تدفقها وملائمة أسعارها أهمية بالغة لإقتصاده والدول الأخرى، وبذا يكون التقرب غير الأصولي منها مقنعا للتدخل، ومــــبررا لأية إجراءات تتخذ في مجاله.
2. إنها منطقة من الناحية الطبيعية توفر الفرصة لأمريكا أن تظهر قدرتها على الحسم العسكري، وقدرتها على التحكم والسيطرة، وهذه يمكن أن تكون شديدة الفاعلية في إقناع منافسي الولايات المتحدة الأكثر جدية في مناطق أخرى من العالم بمخاطر تحدي المصالح الأمريكية.
3. فـــــي هذه المنطقة إيران الدولة الإسلامية النفطية التي تحاذي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق غير المستقرة، وقريب منها " منطقة الخليج " دولة باكستان التي لم يحسم صراعها مـــع الهند حول كشمير حتى الوقت الحاضر، وكذلك إفغانستان الإسلامية المتطرفة بوضعها المضطرب، وتركيا التي لم تنه مشاريعها في السيطرة على المياه المنسابة إلى سوريا والعراق، ولم تنس طموحاتها السابقة في ولاية الموصل. وهذه مع الواقع الاسرائيلي القريب مواضيع تجعل المنطقة ساحة توتر، وتجعل السياسيين المحليين فيها أقل مقاومة لتوجهات الدول الكبرى في التواجد والتدخل، وتوفر لحكومات تلك الدول " الكبرى " حججا مناسبة لإقناع شعوبها، والرأي العام فيها بمعقولية التدخل من أجل مصالحها، والاستقرار العالمي.
4. إنها المنطقة التي غادرها الانجليز بعد الخمسينات في القرن الماضي، وأبقوا فيها كثير من بؤر التوتر القابلة للإستثارة في الزمان والمكان المطلوبين مثل:
أ. مشاكل الحدود التي لم تُرَسمْ بشكل عادل، ومقبول لكل الأطراف حتى أُبقيت مثار خلاف بين الكويت والعراق، وإيران والعراق، وبين السعودية وقطر، وقطر والبحرين، وعدم اتفاق بين السعودية واليمن، وتركيا والعراق وسوريا .... الخ.
ب. اللاتجانس في عديد من الجوانب التي تشكل ركائز أساسية للتوازنات الإقليمية في المنطقة بينها:
أولا. التوزيع البشري، حيث الدول الغنية بعدد سكانها حد الإلحاح على تحديد النسل، والأخرى الفقيرة التي تمنح مكافئات تشجيعية لزيادة الانجاب.
ثانيا. الواقع الحضاري، حيث المجتمعات المتخلفة حضاريا، والأخرى الأكثر تحضرا بالقياسات المحلية.
ثالثا. البعد الطائفي الذي ترتب لتتحكم في بعض مجتمعات المنطقة طوائف من الأقلية تتعامل مع الأغلبية من الطوائف الأخرى مواطنين من الدرجة الثانية.
رابعا. المجال الجغرافي الذي منحت على أساسه بعض دول المنطقة أفضلية حصولها على عوارض طبيعية للدفاع أو للهجوم، وأخرى أصبحت أرضها سهلة للتجاوز والإجتياز.
خامسا. الإطار السياسي الذي دُعمَ لأن تكون فيه بعض نظم المنطقة جمهوريات علمانية متطرفة، وأخرى ثورية متطرفة، وثالثة ملكية معتدلة، ورابعة على أساس الإمارة والسلطنة.
سادسا. الجانب القومي الذي تشكلت على أساسه مجتمعات من قومية واحدة ومجتمعات مجاورة جرى تشكيلها من عدة قوميات.
إن مشاكل الحدود واللاتجانس مع العديد من التناقضات الأخرى كَّونَ منطقة مركزها الخليج قابلة للإشتعال عن بعد، حرائق لا يمكن أن تخمد إلا بجهود الغير من خارجها، فأصبحت والحالة هذه المكان المناسب لإثارة أزمة، وكونت حكومة صدام فتيلا لها بدأ بالاشتعال عند إجتاحها للكويت، وبدأت سعة إشتعاله بالتوسع عندما أُفهمتْ السعودية وباقي دول الخليج مع اللحظات الأولى للغزو أن نجاح الحكومة العراقية بضم الكويت أو حتى السكوت عنه سَيُعَدُ نجاحا يدفعه إلى الزحف باتجاهها واجتياح أراضيها، فاندفعت سريعا بالتحالف لدرء هذا الخطر مع:
(1). دول قريبة في المنطقة أقلقها التصرف الحكومي العراقي.
(2). دول عربية ترى أن أمنها مرتبط بأمن الخليج العربي.
(3). دول عربية أخرى وجدت نفسها أمام حالة فريدة من نوعها تقتضي الحاجة إستثمارها إلى أبعد الحدود لمكاسب إقتصادية وسياسية قد لا تتكرر ثانية.
(4). دول عظمى خططت طويلا لدخول المنطقة بطريقة جديدة تكون مرغوبة من أهل المنطقة، ومختلفة عن تلك التي كانت شائعة ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها ، فوجدت الفرصة سانحة بأقل الخسائر.
(5). دول أخرى عربية، وغير عربية كان تحالفها إسقاط فرض أو نوع من المجاملة لعرب الخليج أو للدول العظمى قائدة الحملة.
وهو أندفاع يؤكد أن أحتلال الكويت وأسلوب تنفيذه جاء لتكوين أزمة لإعتبارات خارجية دولية وإقليمية، دفعت باتجاه تكوينها، وأخرى داخلية كانت آلة قدحها، تفاعلٌ بين نوعي الاعتبارات المذكورة أبقى عوامل التحكم بها خارج المنطقة، فالحصار وأساليب تطبيقه التي تدمي العراقيين وتبعدهم تدريجيا عن التفاعل مع الحلول المقترحة للأزمة على سبيل المثال، متغيرات باتت عوامل التأثير فيها في جعبة الأمريكان، كما أن رغبة أهل المنطقة ومحاولاتهم رأب الصدع مع العراق تمهيدا لتجاوز الأزمة مثلا تتبدد كل مرة بأفتعال ضغوط على حكام العراق الذين يستجيبون لها انفعاليا استجابات تزيد من التوتر وتبقيها وسيلة للتعامل مع تلك الاستجابات، مثل المطالبة باعادة النظر بالاعتراف بالكويت أو تهديدها وباقي دول المنطقة، ليعيدوا بفعلتهم هذه وغيرها أبعاد الأزمة ثانية، وهكذا أصبحت متغيرات التهدئة والاثارة في ذات الجعبة الخارجية.
العراق من الناحية الطبيعية والاجتماعية إمتداد لمنطقة الخليج العربي، فأصبح بسببها أحد عوامل التأثير والتأثر بمجريات أحداثها، ولمستوى باتت فيه عوامل إختيار المنطقة ساحة للأزمة تنطبق عليه أيضا كما هو الحال على الأطراف الأخرى بالمنطقة، والفارق الوحيد بينهما هو إختياره بؤرة لها أو بالمعنى الآخر أداة تفجيرها لأسباب بينها:
1. موائمة شكل نظام الحكم في العراق لإثارة الأزمات
في العراق نظام جمهوري يحكم فيه حزب واحد يرى في الوحدة العربية " نظريا " حل لكافة مشاكلها، ويرى أن أسلوب تحقيق الوحدة موكول للظروف السائدة، ويؤمن قادته بمنطق الغاية تبرر الوسيلة، وحكومته هرمية شبه عسكرية لا خيار لها سوى تنفيذ الأوامر، وتسويق الأخطاء أعمالا بطولية للحاكم الموجود في أعلى قمتها والذي يعاني أوهام العظمة والاعتقاد بشرعيته الثورية لحكم المنطقة والوطن العربي، وحكومة سلبية انفعالية من هذا النوع يسهل استثارتها عن بعد أو حتى توجيهها بشكل غير مباشر، وهذا ما حصل بالفعل قبل بداية الأزمة ومؤشراته هي:
أ. تشير العديد من التقارير الصحفية إلى أن السفيرة الأمريكية كلاسبي في بغداد قد نوهت إلــــى صدام حسين في مقابلة لها معه قُبَيلَ الاجتياح على أن مسألة التوتر مع الكويت شأن عربي، وكان تنويها مبرمجا بقصد الإيحاء، فسره وتبعا لنواياه ورغباته الداخلية ( غض للطرف، وعدم الاستعداد لأي تدخل أمريكي )، وكانت النتيجة غزو الكويت، وإثارة الأزمة.
ب. أصدر صدام أوامره للقوات العراقية بعد أيام من الاحتلال بالانسحاب من مدينة الكويت، وعاد لإلغائها قبل التنفيذ بلحظات نتيجة لإنزعاجه من تصريحات للأمريكان صِيغت آنذاك بما يُفسر انسحابه ضعفا وخسارة عسكرية .
ج. أكد بريماكوف الموفد الشخصي للرئيس السوفياتي غورباتشوف آنذاك في مذكرات نشرها عن حرب الخليج استغرابه من مواقف الحكومة العراقية التي توافق على الانسحاب في رسالة ينقلها إلى الأمريكان ليجد بعد وصوله إليهم أن استجابتها ـ أي الحكومة العراقية ـ قد حدثت بالعكس مما تم الأتفاق عليه (1).
2. صلاحية أرض العراق لمعركة عسكرية مثالية
يرتبط العراق بالسعودية منطقة التحشد لقوات الحلفاء بأرض صحراوية منفتحة تمتد إلى مسافة قريبة من بغداد، وكذلك الكويت، وتصلح أرضا مثالية لعمل الدروع والطيران التي تتفوق بهما قوات الحلفاء على العراق تفوقا ساحقا من الناحية التقنية والقدرة التدميرية، الأمر الذي يضمن لها انتصارا تاما بمعركة نموذجية تدمر هذا البلد، وتحقق أهداف إخراج قواته من الكويت بأقل ما يمكن من الخسائر، وهذا أمـــر خططت له ونفذته أمريكا جيـــدا حتى قبل تأكيد وجودها قطبا واحدا قويا في النظام العالمي الجـــديد، وقد نجحت في استثماره رسالة موجهة للسوفيت أواخر أيامهم، ولبقية دول العالم للإعتراف الشرعي بهذا الوجود.
3. اضطراب الوضع الاقتصادي
دخل العراق حربه مع إيران برصيد من النقد الأجنبي يصل قرابة الثلاثين مليار دولار سيولة في المصارف الأجنبية، واستمر بها لتنتهي أرصدته ويقترض بقدرها ما يقارب الخمسة مرات ـ أي بحدود 150 مليار دولار ـ ديون وإلتزامات مالية، وخسائر غير منظورة، لم يشعر بوطأة تأثيرها على إقتصاده وعلى مستويات دخل مواطنيه إبان الحرب بسبب الدعم المعنوي والمالي الخليجي الذي لم يتوقف عند حدود معينة فرضتها التفسيرات السائدة لطبيعة المعركة آنذاك، لكنه وبعد إنتهائها وجد:
أ. إن الدعم قد توقف وكذلك التسهيلات.
ب. إن الديون وبعض الالتزامات قد استحق الايفاء بها.
ج. إن الخزينة خاوية إلا من النقد العراقي الذي يطبع محليا دون غطاء.
د. عوائده لا تفي بالفوائد المعمول بها في المصارف الأجنبية.
هـ. إن نشوة النصر باتت مهددة بأعباء الديون واضطراب الاقتصاد.
..... الخ من عقبات أصابت الحكومة باحباط شديد ولد عدوانا شديدا باتجاه الأضعف في المنطقة " الكويت " وعاملا ملائما لتوجيهه عمليا في تكوين الأزمة.
4. ديمومة الشحن الانفعالي
حاربت حكومة العراق إيران لمدة ثمان سنوات مستمرة، وخرجت منها معتقدة أنها قد حققت الانتصار المطلوب في منع الثورة الإيرانية الشيعية من أن تمتد إلى العراق، وبقية الدول العربية الخليجية، دون أن تدرك أن نهاية حربها قد صيغت بدقة متناهية لم تلتوي فيها إرادة أحد الطرفين المتحاربين كما هو الحال في غالبية الحروب العسكرية التقليدية، وهذا أمر أبقى كثيرا من معالم العداء كما هي في سنوات الحرب الطاحنة وأكثر شدة في غالب الأحيان، وأبقى مثيرات التوتر فاعلة بين البلدين، مما جعل صدام يمتنع عن أو بالمعنى الأدق يهمل عن عمد النصائح التي قُدمتْ له من قبل الأمريكان ودول غربية أخرى بعد إنتهاء الحرب مع إيران، بضرورة تقليص الجيش العراقي إلى مستواه قبل الحرب أو إلى المستوى الذي يكون فيه فقط قادرا على الدفاع عن أرض العراق بكفاءة، كذلك تحويل الصناعة العسكرية إلى مدنية لأغراض التنمية وتحسين وضع العراق اقتصاديا. وبدلا من هذا أستمر في عمليات الشحن الانفعالي للقوات المتأهبة للقتال بأوامره المباشرة، فكان وضعا خاصا أبقاه "صدام" منتشيا بالقوة والميل إلى التحدي، وأبقى الجيش مشحونا بالرغبة في القتال، ووضع من هذا النوع يكون الأكثر ملائمة للتحرك باتجاه تكوين أزمة.
5. ثروة العراق النفطية
تشير نتائج الاستكشاف أن العراق يمتلك احتياطي نفطي يعد الأكبر في المنطقة، ويمتلك كذلك معادن أخرى لم يجر استغلالها تجاريا حتى الآن، وهو طيلة فترة حربه مع إيران لم يستخرج من النفط ما يغطي حاجته أو يؤمن طاقته القصوى، فبقي والحالة هذه أعلى قائمة أصحاب الاحتياطي النفطي عالميا، وهذا عامل إذا ما وضع مع حكومة عراقية غير عقلانية مستعدة لأن تمنح نفطها رخيصا أو حتى هبة لدول غير مرغوبة من النظام العالمي الجديد جعل العراق من بين الأهداف الرئيسية لهذا النظام، وجعل الحيلولة دون وصول تلك الدول إلى ثروته، ومن ثم الإحتفاظ بها خزينا استراتيجيا يمكن العودة إليه عند الحاجة، مسعا لـــه " النظام العالمي " وهذه أهداف ومساع يسهل تحقيقها جميعا بافتعال الأزمة.
6. التوازن العربي الإسرائيلي
دخل العرب حروب عدة مع إسرائيل كان العراق من بين المشاركين بها، رغم أن مشاركته تأتي متأخرة بعض الشيء أحيانا بسبب ساحته التي تبتعد نسبيا عن أرض المعركة في فلسطين أو على حدودها من جهة الأردن أو سوريا أو مصر، ومشاركاته الجادة جعلته طرفا فاعلا في التوازن بين الجانبين طيلة فترة الصراع الدائرة، والطرف الوحيد من بين تلك الأطراف الذي لم يوقع على الهدنة وإيقاف القتال في أي من تلك الحروب التي دارت منذ العام 1948 وحتى تشرين 1973، هذا وإذا ما نظرنا إلى طبيعة الصراع وجوانب التوازن العربي مع اسرائيل نجد أن قدرات العراق تعزز كفة العرب في عدة مجالات أهمها:
أ. المجال العسكري الذي امتلك فيه الجيش العراقي خبرة قتال جيدة من حربه الطويلة مع إيران، وإحتفظ بأكثر من سبعة فيالق من صنوف مختلفة، وحرس جمهوري يزيد عن مستوى الفيلق، وقوات جوية وبحرية حديثة نسبيا، بإجمالي تعداد يزيد في ذلك الوقت على تعداد الجيشين السوري والمصري مجتمعة، وصُنِفَ الخامس على الجيوش العالمية، وأصبح في قدرته وامكاناته هذه وزنا ذو تأثير لا يمكن الاستغناء عنه في المعارك المتوقعة مع الاسرائيليين مستقبلا.
ب. وفي مجال الصناعة العسكرية قطع العراق شوطا كبيرا باتجاه سد حاجته لبعض الأسلحة، والأعتدة، المعدات، وانجز بالفعل أسلحة كيمياوية استخدمها صدام في حربه مع ايران وفي قتاله مع الأكراد شمال العراق، والعرب في جنوبه ، وأنشأ في العشرين سنة الأخيرة مصانع بتقنيات متقدمة، ودرب كوادر فنية وهيأ علماء في هذا المجال كانت في مجملها عوامل دعم لكفة العرب في مواجهتهم التقنية، والعلمية مع اسرائيل التي تتفوق عليهم بمراحل في هذا المجال.
ج. العــراق ومنذ بداية تأسيس الدولة عام 1921 توجه أبناءه إلى التعليم وتطوير أنفسهم، واستمروا كذلك حتى الثمانينات، وبالقاء النظرة على مستويات تحصيل العراقيين نجد أن حالات الأمية قد انخفظت حتى عام 1990، وإن نسبة الأطباء لعدد السكان تفوق ما عند العرب الآخرين، وكذلك أعداد الأساتذة، والمختصين، وعدد الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية، الأمر الذي ميز العراق مجتمعا أكثر تقدما لغاية التاريخ المذكور بالمقارنة مع الأقران القريبين. وتقدم من هذا القبيل لا بد وأن ينعكس ايجابا على التوازن الحضاري بين العرب والاسرائيلين.
د. البعد القومي العربي. في العراق وإبان الحكم الملكي، وما بعد الجمهورية الأولى عبد الكريم قاسم شعر العراقيون بانتمائهم إلى العرب أمة أكثر من تشبثهم بالخصوصية العراقية رغم تشكل مجتمعهم من قوميات وأطياف أخرى غير عربية، حتى أصبحت القومية العربية وهموم الأمة العربية معيارا لوطنية العراقيين الذين وجدوا طريقهم للوقوف مع مصر عام 1956 في حرب السويس، ومع الجزائر في صراعها مع الفرنسيين، ومع السوريين في حرب تشرين، والأردنيين في أزماتهم الاقتصادية، والارتيرين في كفاحهم من أجل التحرير، واليمنيين في إعادة بناء وتوحيد بلدهم .. الخ من مواقف خصت العراقيين بالصفات القومية وجعلتهم مساهمين أساسيين في ميزان القوى بين العرب وغيرهم دون الحاجة إلى إثارة واستعطاف مسبقة.
7. القنبلة النووية العراقية
ركز العراق في زمن صدام حسين جهوده الحثيثة على اكتساب الخبرة في المجال النووي، وقامت الحكومة بإيفاد المئات من العراقيين للدراسة في أوربا وأمريكا بعد منتصف السبعينات، ورصدت عشرات المليارات لشراء المعدات، حتى خطت خطوات متقدمه في هذا المجال أسفرت عن ضرب مفاعل تموز القريب من بغداد وتدميره من قبل الاسرائيلين عام 1982 قبيل إكتمال برنامجه لتفجير القنبلة النووية بفترة قليلة ، لكن جهوده لم تتوقف وعاود نشاطه ثانية ليصل خطوات أكثر تقدما، أكد على ضوئها البعض من خبراء الذرة الذين تركوا العراق في تسعينات القرن الماضي على أن العراق كان بامكانه تفجير أول قنبلة ذرية بعد ستة أشهر لو لم تحدث حرب الخليج الثانية التي تسببت في تدمير المفاعلات عسكريا، وإنهاء برامجه البحثية عن طريق فرق التفتيش الدولي بمستوى فسر فيه المتابعون أن إلحاح الأمريكان والأمم المتحدة على جانب السلاح النووي يؤكد أن العراق قد وُضع هدفا للتدمير لأسباب بينها هذا السلاح الننوي المحتمل إمتلاكه(2).
بدأت حرب الخليج الثانية حشدا لقوى ومعدات وأسلحة وذخائر وتقنيات فاقت كثيرا مالدى العراق، وإنتهت بطريقة كانت نتائجها صدمة للعراقيين وذهول لحكومة صدام لم تفق منه إلا على صرخات المنتفظين في أربعة عشرة محافظة يوم 1/3/1991، وكذلك على تحذيرات القريبين عربا وغير عرب، وعلى التغير المفاجىء لموقف الكبار التي ما زالت جيوشهم على أرض العراق تدمر بناه التحتية تارة، وتشجع المنتفظين للجوء إليها تارة أخرى، وتفتح الطريق لقوات الحرس الجمهوري لسحق الانتفاظة تارة ثالثة، بطريقة إختلطت فيها الأوراق على العراقيين الذين حُصروا بين مطرقة صدام ورود أفعال الحلفاء غير المبالية، وإختلطت كذلك على العرب الذين دخلوا الحرب على أساس التوقف عند حدود إخراج القوات من الكويت فوجدوا أنفسهم غير قادرين على البوح بكلمة مع إندفاع حلفائهم لتدمير العراق الركن المهم في توازنهم الاستراتيجي مـــــع عدوتهم التقليدية اسرائيل، وإختلطت كذلك على العرب الخليجيين الذين قاتلوا صدام عدوا لدودا بكل قواهم، فوجدوا بالنتيجة أنهم يقبلون خيار بقاءه على أعتاب حدودهم مرغمين، بعد أن تولد إعتقاد لديهم وباقي العرب والحلفاء " ساهمت في وجوده الأجهزة المختصة في حكومة صدام، وظروف قيام الانتفاضة والتخبط في إدارتها " من أنها ـ أي الانتفاضة ـ ستؤدي بمجيء الشيعة إلى حكم العراق، ومجيئهم هذا يعني إختلال التوازن الطائفي الذي درجت عليه المنطقة منذ الأيام الأولى لرسم خرائط دولها السياسية والجغرافية، الأمر الذي أدى إلى تغير مواقف العرب الفاعلين في ساحتها بدرجة تجاوزوا المطالبة بتغيير صدام إلى قبوله ضعيفا يجنبهم سنين من التعامل غير المضمون مع جيل الدين الثوري السياسي(3).
وكان خلط الأوراق هذا مع الواقع الذي تكّون على الأرض، وفي أروقة السياسة الدولية بعد إنتهاء المواجهة العسكرية في الحرب قد أوجد عدة حقائق كان لها الأثر الكبير في المواقف الدولية من الأزمة، وكذلك على تطورات التعامل معها بينها:
1. بروز أمريكا قوة فعالة في النظام العالمي الجديد وبقائها كذلك لسنين طويلة، وتأكيد مسألة الحلول المناسبة لأزمة العراق والمنطقة وباقي الأزمات لا بد أن تاتي عبر بواباتها المحكمة.
2. حصر الاتحاد السوفياتي السابق في زاوية العجز عن التدخل في المنطقة التي يتوسطها العراق، الأمر الذي عزز فكرة شيخوخته ثم مماته " التفتيت ". وهي النهاية التي ورثتها روسيا الاتحادية، تكبيلا بالحركة لذات الأسباب السياسية والمادية التي أفقدت صدام فرص المناورة بالارتكاز على مصالح الروس في التحرك للتعامل مع الأزمة.
3. إصابة العرب بالإحباط واليأس من إمكانية حل مشاكلهم والتعامل الفاعل مع أزماتهم بأنفسهم زاد من تبعية المنطقة لأمريكا في مختلف المجالات، وعلى أساسها توجهوا بقليل من الاستثناء إليها طالبين تدخلها المباشر في حل بعضها، مع استعداد مسبق لدى غالبية حكوماتهم لدفع الثمن المطلوب مقدما.
4. فشل نظريات الأمن الإقليمي المستقل أو بالمعنى الأكثر وضوحا غير المرتبط بالأمن الدولي في النظام الجديد، كذلك عجز التكتلات الإقليمية عن تأمين مصالحها في الدفاع دون الإرتباط بالأقوى في النظام الدولي الجديد. مما دفع غالبية حكومات المنطقة إلى الاعتراف الضمني بأن أمريكا الملاذ الوحيد لها في وقتها آنذاك، والمجال الأضمن لطلب حمايتها، مما عزز فكرة أن الحل المناسب للأزمة يأتي من خلالها.
5. إنتهاء عصر الثورية فلسفة لإدارة الدول والمجتمعات، وإقتناع العديد من رجالها الفعليين بأن المرونة، والمناورة، والتهدئة، وتقديم التنازلات على حساب المبادىء أمرا يجنبهم التضحية بأشخاصهم، وآرائهم، وجمهورياتهم غير المستقرة، حقيقة أصابت حكومة صدام باحباط وشلل لم تفق منهما إلا بعد سنوات من حدوث الأزمة.
6. إن إرتكاب مخالفة في النظام الدولي الجديد مثل التي إرتكبها العراق باحتلاله الكويت والاصرار بضمها إلى أراضيه مسألة غير مقبولة، والعقوبات التي فرضت لإطالة أزمته وعقوبات يمكن أن تكون أقسى، صيغة يمكن استخدامها في كل مناطق العالم بقصد الردع وتقويم السلوك الثوري الفوضوي.
7. دخول إسرائيل العدو الدائم للعرب طرفا في ترتيبات المنطقة، إقتنع بوجودها عديد منهم، وإقتنع بعضهم أيضا أن التطبيع معها عربيا في مجالات الأمن والاقتصاد والسياسة، وغيرها مجالات، يمكن أن يكون عاملا داعما لإستقرارهم غير الموثوق به، وفاعلا لتعزيز أمنهم غير الرصين. وإرتأى البعض الآخر أن التعامل معها قد يكون عاملا مساعدا لحل الأزمة أو بوابة من البوابات التي يمكن أن تمر من خلالها الحلول المطروحة لها على أقل تقدير(4).
إن الحقائق المذكورة التي تكرست مع بداية إحتلال صدام للكويت وإثر الحرب التي دارت لإخراجه، وما بعدها من خطوات التدمير والتجهيل والحصار كونت واقعا شائكا لأزمة العراق يمكن تلمسه من خلال:
أ. إن متغيرات الصراع ورؤى التوازن الدولي كانت حاضرة منذ البدايات الأولى لإحتلال الكويت، وكذلك كانت بعد إنتهاء إحتلاله بطريقة أبقت أمريكا صاحبة للنفوذ بكامل المنطقة بديلا عن الانجليز، وغيرهم وجعلتها بالمحصلة لاعبا وحيدا أو اللاعب الأقوى في ساحة الأزمة، الأمر الذي أعطاها فسحة لفرض شروط تفوق أحيانا قدرة العراق، والمنطقة على استيعابها أو تحملها، كما دفعها من جهة أخرى إلى تكبيل العرب الخليجيين بِثَمن إبعاد الخطر العراقي، وتحقيق الأمن الاقليمي بفواتير يصعب تسديدها بقليل من السنوات التي تحتم بقاء الأزمة مجالا وحيدا لدفع تلك الفواتير ولحين إكتمال التسديد.
ب. أن النتائج التي تمخضت عن حدوث الأزمة، واستمرارها بصيغها المختلفة لا تقتصر على العراق ومنطقة الخليج التي تضررت أكثر من غيرها، بل وأصبحت مسألة عالمية شاملة، تحاول كثير من الدول أن تكون طرفا فيها رغم محدودية حركتها من خلال المطالبة بتعويضات لمشاريع كانت تفكر باقامتها في الكويت، وتعويضات لمواطنيها الذين حرموا من ديمومة عملهم في الكويت والعراق أو من خلال الحصول على القليل من عائدات الاعمار، والتجارة، وإعادة التأهيل وغيرها ولو بطريقة المقاوليين الثانويين.
وهذا وضع جعل العراق فريسة أو تركة يسعى الكثير على نهشها أو الكسب منها بكافة الطرق والوسائل بينها صب الزيت على النار أو التغاضي عن التفاعل معها أو حتى المساهمة في زيادة تعقيداتها، وجعلت الخليج بدوله العربية سيلا من النفط الميسور، وسوقا للأسلحة الفائضة، ومكانا للتواجد العسكري المباشر لا يمكن التنازل عنه أو فضه بسرعة، وإن تسبب في قلق الحكام وعدم رضا أبناء المنطقة عن واقعهم وأشقائهم في العراق.
خرجت حكومة صدام من الكويت إثر معركة عسكرية كانت خسائر العراق بسببها كبيرة من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، وبدرجة كادت أن تطيح حكومته التي أثبتت وقائع الحرب في أيامها الأخيرة أن الحلفاء قد غيروا من مواقفهم في إطاحتها أو أنهم لم يضعوا في حساباتهم تغييرها، لإعتبارات عدة بينها:
1. كانت هناك مترتبات على نتائج الحرب مثل التعويضات، وتمويل أعمال الأمم المتحدة في المنطقة، وغيرها أمور يصعب قبولها من حكومة جديدة لا ترى أنها تتحمل ذنب إرتكبه صدام بعيدا عن تطلعات العراق ومصالحه الوطنية، عليه أصبح بقاء الحكومة شبه مفروض لتحقيق تلك الغايات ولعدة سنوات مقبلة.
2. انتهت صفحة الهجوم البري وتوقف القتال في 28/2/1991، ولم تكتمل أهداف الحلفاء الاستراتيجية لتدمير عموم البنى التحتية للعراق وتخريب نظامه القيمي، وتعطيل نموه وتهجير عقول أبناءه، وهذه أهداف تكميلية لا يمكن لها أن تتحقق بتغيير الحكومة وانهاء الأزمة، بل وعلى العكس من ذلك فإن الحكومة الحالية التي اشتهرت بسوء تصرفها وقصر نظرها ستساعد بتعاملها الخطأ مع الشعب العراقي والأزمة بما يساعد على تحقيق تلك الأهداف عن طريقها مباشرة، الأمر الذي دعم وجهة النظر الخاصة بإبقاء الحكومة المسؤولة عن الحرب وافتعال الأزمة لتتحمل وزر الاستمرار الفعلي لها ـ أي للحرب ـ بوتائر الخرق الشكلي لمناطق حضر الطيران وعدم الامتثال لقرارات الأمم المتحدة التي وفرت لأمريكا وحلفائها فرص مناسبة لإتمام أهدافهم على مراحل.
3. تحاول أمريكا ومن بعدها بريطانيا بقصفها الأهداف التكميلية على وفق خططها المرسومة عزل الشعب العراقي والعربي عن خطوط التأثر بنتائج ذلك القصف، مؤكدة في إعلامها القوي أن أهدافها تتركز على الحد من قدرة صدام العسكرية، وعلى إضعافه تدريجيا خطوة من أجل التغيير إلى النظام الديمقراطي التعددي، وهذه معطيات إعلامية استراتيجية لا يمكن أن تتحقق دون الوجود الفعلي لحكومة صدام الحالية التي إقترن وجودها بالظلم والدمار والدكتاتورية، الأمر الذي يكون فيه قدرا من القبول المعقول في العقل الشعبي العراقي والعربي بحجج الأمريكان مع كل ضربة فاعلة كنوع من التنفيس عن مشاعر العدوان بالضد من وجودها "حكومة صدام ".
4. يحسب الغرب وبينهم الأمريكان المعنيين بالأزمة الرأي العام في بلادهم، ويحسبون الآثار الجانبية لتصرفهم مع جوانب الأزمة على مستقبل أحزابهم السياسية ونتائج الانتخابات الدورية، وقد هيأوه تماما قبل قرار الحرب، وسجلوا في عقله الجمعي الصورة الحقيقية لبشاعة الحكومة العراقية وهمجيتها، وعلى أساسها قَبِلَ الغالبية قرار الحرب هدفا لتمزيق تلك الصورة، وعندما لم يكتمل سيناريو الأزمة الذي تَطلبَّ ديمومة فعل الضرب والتدمير، لم يبق خيار سوى الابقاء على تلك الحكومة بصورتها المشوهة هدفا معقولا في ذات العقول يضمن رأيا عاما موافقا على تلك الاجراءات أو غير معارض لها.
كان لمتغير بقاء النظام الحاكم في العراق أثر على إبقاء الأزمة وتطور وقائعها، وكانت نتيجة الحرب، واستمرار مستويات التوتر، والعمليات العسكرية لإتمام ما تبقى من الأهداف أثر كذلك على ديمومتها " الأزمة " وكانت مصالح البعض من العرب والجيران الخاصة من بين العوامل المؤثرة على طبيعتها، الأمر الذي كوَّن واقعا ورؤى مختلفة اقليميا ودوليا للتعامل معها تبعا للمصالح والمواقع والأهداف، وكما مبين في مواقف الدول التي أقتربت منها أو تقربيت إليها.
عند التكلم عن موضوع الأزمة العراقية أو بالمعنى الأدق أزمة المنطقة، يبرز الموقف الأمريكي والمساعي الأمريكية والمصالح الأمريكية بمواجهتنا ولمستوى أصبح التكلم عن أي جانب من جوانبها يعني الإشارة إلى الأمريكان بشكل أو بآخر. وبالعودة إلى استعراض الأفكار المسطرة لموضوعنا هذا نجد أن الكثير منها تناولت الموقف الأمريكي بدءا من التخطيط المسبق لإفتعال أزمة بالمنطقة تعود نتائجها تعزيزا لمصالح الأمريكان، مرورا بدوافع إختيار الخليج ساحة للأزمة والعراق بؤرة توفر لهم أعلى فرص لتحقيق المصالح، وانتهاءا بتصورهم عن إحتواء صدام ، وربما الحيلولة دون توحيد وتفعيل الجهد العراقي المعارض لإعطاء الأزمة فسحة زمنية مناسبة لتحقيق المصالح والأهداف المرجوة.
وعلى وفق تلك الأسس يمكن قبول التصور الذي يؤكد أن بدء الأزمة جهد أمريكي تعامل مع صدام حسين فتيل الأزمة بطريقة أو أكثر من الطرق الآتية التي دفعته إلى إشعالها:
1. الضغط غير المباشر على الكويت، والامارات، ودول أخرى لزيادة إنتاج نفطها وتخفيظ الأسعار لتقويض النظام العراقي عن طريق الاقتصاد، علما أنه لم يتأيد من مصادر محايدة " وبحدود الاطلاع " أن الكويت والإمارات سعت متعمدة لإشباع سوق النفط العالمي بانتاجهما أكثر من الحصص المثبتة لهما في اتفاقات أوبك وتخفيض الأسعار، بقصد إنهاك الاقتصاد العراقي الذي يعاني تضخما واضطرابا بعد انتهاء الحرب مع ايران، لكن الأمر الأكثر احتمالا في هذا الجانب هو أن معلومات قد سربت إلى صدام آنذاك تعطي تصورا مشابها فسره على أن وقائعه حربا موجهة لإسقاطه، أو أنه قد إبتدعتها حجة ( وهو الأكثر خبرة في هذا المجال ) لإبتزاز الدولتين بهدف الضغط لإلغاء ديونها، ودعم اقتصاده ، تعززت في مخيلته الموسومة بالشك وعدم الثقة عن طريق التكرار، وسعة العرض الإعلامي لها كفكرة أو واقع حقيقي أو قريب من الحقيقة.
2. الإيحاء غير المباشر بالسماح له قضم الكويت لقمة سهلة كمكافئة له على حربه مع إيران وتعويضا محليا لخسائره فيها من خلال المقابلة المشهورة للسفيرة الأمريكية بالعراق المشار إليها آنفا أو عن طريق عمليات التسميم السياسي، والحرب النفسية التي تتلقف أجهزة صدام تأثيراتها بشكل سريع بسبب خصائصهما النفسية غير السوية.
3. تضخيم الإعـلام والجهد الدبلوماسي الغربي الأمريكي قدرة، وإمكانات العراق في عقل الحكومة بعد إنتهاء حربها مع إيران وترسيخ فكرة الانتصار الحاسم وحماية العرب من التوجه الإيراني الذي أشعر الحاكم وأعضاء حكومته بالقوة غير المحدودة، وبأحقية هذه القوة لتحقيق المكاسب من المجاورين الذين يحاولون إضعافها.
وعلى وفق تلك الأسس يمكن القول أن الإيقاف المفاجىء من الطرف الأمريكي للحرب، وعدم إطاحة النظام وإنهاء الأزمة مسعا أمريكيا لإعتبارات بينها:
أ. إبقاء صدام الذي قبل شروط الحلفاء حاكما على العراق بقدرات ضعيفة مع صياغة ضغوط مستمرة على حكومته كفيلة بتحقيق باقي الأهداف التي لم تؤدِ الحرب إلى تحقيقها كما ورد في أعلاه، إذا مأ أخذنا بنظر الاعتبار أن أي حاكم جديد ومهما كانت توجهاته أو إنتماءاته سيشعر أنه غير ملزم بتحمل أعباء ونتائج حرب لم يكن هو، ولا الشعب العراقي طرف فيها أو سبب من أسبابها.
ب. إن مؤشرات التغيير التي بدأت ظاهرة بعد وقف إطلاق النار عام 1991، لم تأت محاولات إحداثها من حزب البعث كما تريد بعض الأطراف الخارجية، ولم تأت كذلك من بين القوات المسلحة كما تريد أطراف أخرى وشرائح واسعة من أبناء شمال الوسط والشمال العربي العراقي، لكنها جاءت من بين أهل الجنوب ردا على معطيات الظلم، والاضطهاد، والإهمال، والدونية، والطائفية التي عانوا منها ربع قرن من الزمان على يد صدام، ومجيئها من هذا الوسط مع غياب القيادة السياسية والعسكرية الملائمة، وبروز قيادات دينية محلية لجموع المنتفضين، يعني وسمها ثورة ستؤدي إلى حكومة إسلامية شيعية يتوقع الأمريكان، والعرب القريبين أنها ستحدث خللا في التوازن الإقليمي والدولي في المنطقة، وهو الخلل غير المسموح بحدوثه آنذاك وفي المستقبل البعيد.
ج. أصبحت حكومة صدام خلال فترة الحرب رمزا عالميا للإضطهاد، وخرق حقوق الإنسان، وأساسا لتهديد السلام والاستقرار الدولي باتهامها في إحتمال إمتلاك واستخدام أسلحة التدمير الشامل، وبذا يبرر وجودها للرأي العام الأمريكي والعالمي والعربي، استمرار الحلفاء بالتعامل معها والعراق بطريقة الطرق على الرؤوس لإستكمال ما تبقى من سيناريو الحرب، بينما لا يبرر وجود آخرى بدلا عنها هذا الضرب، بل وسيثير الرأي العام بالضد منه.
وبمحصلة القول أعطى صدام الأمريكان باحتلاله الكويت فرصة تأمين أهدافهم في التواجد العسكري المباشر بالمنطقة، وسهلت لهم تنفيذ خططهم في احتواء حكوماتها، والحكومات القريبة، وبقدر من الدقة أثار تكهنات الباحثين والسياسيين العرب، والعراقيين، وبعض من أبناء الغرب لمستوى:
إعتقد البعض منهم أن صدام عميلا للأمريكان، واحتلاله الكويت كان تنفيذا لأوامرهم.
واعتقد البعض أن الحزب الحاكم في العراق ماسوني الوجهة والانتماء، وان احتلال الكويت كان تلبية لرغبة الماسونية العالمية لتدمير العراق والدول العربية، واستنزاف ثرواتهم.
ورأى البعض الآخر أن صدام مغامرا، عدوانيا، ومريضا بالعظمة، وإن احتلاله الكويت استجابة انفعالية، وقرار شخصي، ينبغي أن يكافىء عليه من قبل الأمريكان بعمل تمثال له قرب تمثال الحرية لما قدمه لهم من خدمات جليلة وإن لم يقصدها.
وإعتقد البعض من العراقيين الحزبيين على وجه الخصوص والعرب المنتفعين أن الحكومة العراقية حكومة وطنية وقومية، وإن احتلال الكويت كان بسبب أحقيته بها أرض عراقية، وأن طريقة ضمه لها خطوة لتوحيد الأمة العربية، واجهت مقاومة من قبل الأمريكان أعدائها التقليدين.
وتصور القليل أيضا أن الفعل برمته كان تجاوزا وخطئا في التقدير لا يتحمل كل تلك الأعمال التي قام بها الأمريكان، والتبعات التي فرضوها على العراق.
هذا وأيا كانت الحقيقة من بين تلك التكهنات، فإن وجهة نظر الأمريكان كانت تتركز على استثمار الفرصة إلى أبعد الحدود في إبقاء قوة عسكرية قادرة على ردع العراق، وتقديم الدعم لقوات عسكرية في المنطقة لتنفيذ أهداف استراتيجية المعلن منها:
اولاً. ضمان تدفق نفط الشرق الأوسط وبأسعار معقولة.
ثانياً. إقامة سلام دائم بين العرب وإسرائيل.
ثالثاً. ضمان أمن شركاء الولايات المتحدة الرئيسين.
رابعاً. حماية أرواح وممتلكات الأمريكيين في المنطقة.
خامساً. فتح أسواق المنطقة امام التجارة الأمريكية.
سادساً. إعادة تنظيم الأمن الإقليمي في المنطقة، وتنفيذ سياسة الاحتواء المزدوج للعراق وإيران في آن معا.
سابعاً. التحرك الفاعل في المنطقة عسكريا للحيلولة دون أي مناورة من جانب القطعات العسكرية العربية في المنطقة بالاتجاهات غير المتوافقة ورغبتهم. وسياسيا بالضغط غير المباشر من خلال هامش التحرك العسكري المتاح لتقييد القرار العربي في المنطقة بالصيغ التي لا تبتعد كثيرا عن تلك الرغبات ولحين تنفيذ كافة الأهداف المرسومة، وبأقل ما يمكن من الخسائر. واقتصاديا، إذ يؤمن التواجد العسكري والتحرش المستمر بالعراق توترا يدفع دول المنطقة إلى طلب المزيد من الأسلحة لقاء أثمان عالية، ويوفر تأثيرا مباشرا على انسيابية النفط ، وتحديدا لأسعاره بمستويات مقبولة.
إن وجهة نظر الأمريكان المذكورة حددت أسلوب تعاملهم معها " الأزمة " بصيغ كانت على الأغلب:
1. إبقاء الأزمة طافية على السطح، والمتغيرات ذات الصلة بها مملوكة لهم بالكامل، لتكتسب قوة التأثير بالاتجاه المطلوب وكما يجب، إذ يتلمس المتابعون للأزمة العراقية أنها وكلما فترت أو قل تأثير معطياتها على المحيط الإقليمي يثار موضوع يتعلق بها، كأن يكون التفتيش الملزم للقصور الرئاسية، رغم معرفتهم بخصوصية هذه القصور لحاكم العراق وعدم رغبته زجها في ملابسات الأزمة وهي التي تمثل أمنه الشخصي، وكأن يكون أيضا الدخول المحتوم لمقرات الحرس الجمهوري، ودوائر الأمن والاستخبارات، وهم على دراية تامة على أن المعلومات المصنفة سريا قد وزعت على بيوت، وأماكن بعيدة تماماعن تلك الدوائر والمقرات، وكأن يكون كذلك الإلحاح بطلب الإجابة عن مصير شحنة مواد كيمياوية لمكاحة آفات زراعية وصلت العراق قبل أكثر من عشر سنوات، وهم متأكدين أن حكومته قد حولتها أسلحة كيمياوية إبان حربها مع إيران، أو طلب معلومات عن طيار أمريكي فقد في الحرب إثر إسقاط طائرته ... الخ من النقاط التي أعطت الأمم المتحدة والأمريكان قدرة إبقاء الأزمة وإمكانية إثارتها والتحكم بها لفترات طويلة.
2. التقليل من قدرة العرب وغيرهم جهد الامكان في التأثير على مـــجريات الأزمــة، مـن خلال إلهائهم بمشاكل جانبية أو الايحاء لهم بضرورة الابتعاد عن التقرب إليها.
3. المحاولة جهد الامكان لفصل الشعب العراقي، عن حكومته في موضوع التأثر بالأزمة وبصيغ وآليات يمكن أن تزيد من تعقيداتها بمستوى يبقيها في اليد الأمريكية القادرة وحدها على حل رموزه.
4. اللعب مع حكومة العراق بطرق لا تؤدي إلى خنقها تماما، فهي بالوقت الذي سمحت بالنفط مقابل الغذاء لتكون فيه عائدات النفط في صناديق خاصة، بعيدة عن اليد الطولى للحكومة العراقية، غضت الطرف على ما يبدو لبيعها النفط الخام إلى إيران التي تعيد تصديره إلى الخارج لفترة من الزمن، وما زالت تتغاضى عن تهريبها النفط المكرر ومواد أخرى بين الحين والآخر إلى الإمارات العربية المتحدة، وقبض ثمنه ملايين الدولارات تصرف على نشاطها المخابراتي في الخارج، وعلى شراء الأسلحة والمعدات العسكرية والأمنية.
وهذه نتيجة تعود على الأغلب إلى رغبة الأمريكان إبقاء بعض المجالات مفتوحة لتنفس الحكومة العراقية بشكل يبقيها على قيد الحياة خائرة القوى، لأن قطع الهواء تماما يعني الاختناق ويعني احتمالات قيامها بأعمال لا تحمد عقباها وهي في حالة احتضار.
إن الولايات المتحدة الأمريكية التي باتت تشكل القوة العظمى الوحيدة في النظام العالمي الجديد بحكم إمتلاكها الكثير من عناصر القوة الاقتصادية والعسكرية والاتصالية، والقدرة العالية على التأثير في حجم الفرص والمخاطر المطروحة في المنطقة، تعاملت وتتعامل مع الأزمة بطريقة يمكن تلخيصها بالآتي:
1. إبقاء الأزمة ماثلة، ولحين تحقيق جميع الأهداف التي وجدت من أجلها أو لحين حصول متغيرات قد تؤثر على طبيعة النتائج المتوخاة من تلك الأهداف، أي أنها تبقي الحال على ما هو عليه إلا إذا شعرت على سبيل المثال باحتمالات معقولة لحصول ثورة شعبية، أو انقلاب عسكري قد يأتيان بحكومة جديد لا تؤَمِنْ لها قدرا من المصالح كما تؤمنها حكومة بغدادد هذا اليوم، عندها ستميل إلى التسريع بانهاء الأزمة، أو التعامل معها بطريقة مختلفة.
2. إنها مع الابقاء على سياسة الاحتواء لحكومة صدام التي تصب في إطار إبقاء الأزمة، إلا إذا تصرفت بطريقة تثير التوتر أكثر من الحدود المسموح بها، مثل معاودة ضرب الكويت والاعتداء على السعودية.
3. سوف لن تكتف أمريكا بعدم دعم ثورة شعبية عامة على غرار انتفاضة شعبان عام 1991 للتخلص من سبب الأزمة، وإنما ستحول دون قيامها، لإعتقادها الحالي أن ثورة من هذا النوع ستأتي بحكومة شيعية راديكالية يخل وجودها جارة لإيران بالتوازن أو إنها ستسبب فوضى وإضطراب قد يمتد إلى عموم المنطقة بشكل يصعب السيطرة عليه، إلا إذا أعطت قوى المعارضة الاسلامية الشيعية تصورا على العكس من ذلك.
4. إن احتمالات التغيير الجذري لسياسة أمريكا مع تغير إداراتها من حزب لآخر أمرا مستبعدا إلا في حدود نوعية، يكون فيها الاحتمال الأكثر ترجيحا في هذا المجال هو: اللجوء إلى تكرار ضرب الأهداف العسكرية والحيوية في العراق بعدد مرات أكثر وشدة تدمير أكبر.
5. ستبقى فاعلية الشعب العراقي وردود فعله اتجاه حكومته العامل الأكثر رصدا من قبل الجهات الأمريكية، والأكثر احتمالا لتغيير مواقفها من الأزمة عند تطوره لمستوى التأثير على بعض جوانبها من خلال إعادة تنظيم جهده لتكثيف المقاومة المسلحة أو التمرد والعصيان المدني وغيرها، وستبقى فاعلية قوى المعارضة العراقية في التعامل معهم " الأمريكان " على ضوء فلسفتهم في تأمين المصالح، وقدرتها ـ أي المعارضة ـ على طرح برنامجا ملائما للتعامل مع الأزمة بديلا عن الخطط السائدة لحكومة صدام هو الفيصل في التحول المحتمل لوجهات نظر الأمريكان في موضوعها.
الكويت دولة عربية خليجية مستقلة وعضو في الأمم المتحدة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الاسلامي، ومجموعة عدم الا نحياز، تتمتع بكل مستلزمات الاستقلال، إلا أن حدودها مع العراق ُتركت عمدا وبطريقة تشعرها بالضيق وتثير رغبتها بالحصول على مساحة من الأرض جهد الإمكان تبعد مركزها السكاني الوحيد عن مصدر التهديد الأقوى " العراق " ، وتثير في نفس الوقت رغبة العراق في إبقائها حدودا غير ثابتة يمكن أن تخنق الجارة الصغيرة عندما يتطلب الأمر ذلك، وبذا التقت الرغبتان مع بداية التسعينات لتكون أحد أسباب حرب الخليج أو أحد مكونات فتيلها الذي اشعل من خارج المنطقة، وأدت إلى أن تخرج منها منهكة بفعل التدمير الذي أصاب كل بناها التحتية ومرافقها العامة، ووسائل انتاجها للنفط على يد الحكومة العراقية، وما تبقى بسبب قصف الحلفاء للقوات العراقية المتمركزة فيها.
إن الكويت التي عانت حكومتها وشعبها لفترة عام معاناة قاسية بسبب الاجتياح، وجدت نفسها بعد وقف إطلاق النار مثل غيرها من دول الخليج في موقف الصراع بين القضاء على الحكومة العراقية التي تسببت أصلا بتلك المعاناة، وبين القبول بحكومة ثورية تكونها الانتفاضة بتداعياتها الشيعية، وإذا ما كنا قريبين من الواقع في تحليلنا فإن القول الأصوب:
أنهم وغالبية العرب كانوا في موقف المتفرج خاصة بعد وقف إطلاق النار كون النهايات التي رسمت للحرب داخل حدود العراق كانت من قبل القيادة السياسية لقوات الحلفاء " أمريكا " دون معرفة منهم.
والحرب التي بدأت بتحرير الكويت هدف رئيسي من أهدافها لم تنته تماما، شأنها شأن الحرب مع إيران، وأبقيت عديد من جوانبها فقاعات قابلة للتفجير بقصد استمرار الأزمة حتى وجدت ـ أي الكويت ـ بسببها وأمور أخرى أنها مكبلة بعديد من المسائل بينها:
1. طلب إعتراف العراق بالدولة، وبحدودها التي رسمتها الأمم المتحدة دون موافقة حكومته، وفرض التعويضات، وإعادة الأموال والمعدات التي نقلت إلى العراق، وهذه مسائل بحاجة إلى الوقت للإتصال والتفاوض مع الحكومة العراقية التي ناصبتها العداء حد المقت.
2. بقاء أكثر من ستمائة أسير ومفقود دون تحديد لمصيرهم الذي بات ورقة ضغط على الحكومة الكويتية من قبل المؤسسات، والدوائر الانسانية الكويتية، وأبناء الكويت، ينبغي أخذه بنظر الاعتبار في التعامل مع العراق وجوانب الأزمة، وبالتالي بقاءه موضوعا قابلا لإثارة التوتر، وعدم التفاهم بين بلدين عربيين ينتميان سوية إلى تقاليد القبيلة في التعامل مع كثير من مفردات الحياة العصرية.
3. إن اتفاقيات وقف اطلاق النار قد حددت أرض منزوعة السلاح بين البلدين أبعدت القوات العراقية عن حدود الكويت عدة كيلومترات ، لكنها ومن الناحية العملية أبقتها " الكويت " منطقة قابلة للتهديد، وتكرار الغزو لطبيعة الأرض السهلة بين مواضع القوات العراقية ومدينة الكويت، وقلة القطعات الكويتية الدفاعية المتواجدة بالمنطقة بالمقارنة مع القوات العراقية المدرعة والآلية المتأهبة للهجوم .
4. إختيار الكويت وتبعا لنتائج الحرب كمخزن للأسلحة الأمريكية، وقاعدة للقوات الجوية الأمريكية وقوات أخرى للمشاة والدروع، أبقى الكويتين في إطار الشعور بأجواء التوتر، وكلف خزينتهم أعباء مالية لسد كلفة ذلك التواجد، والعمل الخاص بمنطقة حضر الطيران جنوب الخط 33.
من كل ذلك يمكن تصور الموقف الكويتي من الأزمة أنه موقفا يتأسس على:
أ. إن الكويت طرف من أطراف الأزمة، وأكثر المتضررين بها بعد العراق، وعلى هذا الأساس ترغب في الانتهاء منها باقرب وقت ممكن، دون التفريط بالمكاسب التي يمكن تحقيقها جهد الامكان مثل الاكتساب الشرعي لترسيم الحدود، والاعتراف العراقي الجدي بالدولة، وعودة الأسرى والمفقودين.
ب. تدين الكويت لأمريكا وللسعودية بالدرجة الأولى ومن بعدهم بريطانيا ودول أوربا، والخليج في مسألة إخراج القوات العراقية منها، وهو دين إرتبطت بسببه بأحلاف واتفاقيات أمنية، يجعل رأيها في الأزمة والتعامل معها نابع من رأي الحلفاء الآخرين الذي لا يتجه إلى حلها حلا سريعا، وهو أمر قبلته على الرغم من تمنياتها في التخلص من آثارها سريعا.
ج. إن الكويت ورغم الجهود التي بذلتها للعزل، والتفريق بين الشعب العراقي وحكومته في التعامل مع مفردات الأزمة، لم تستطع بشكل كاف من السيطرة على مخارج الاعلام ونتائج البحوث وتصريحات المسؤولين التي وقعت في شرك تعميم الخطأ على رموز الحكومة وعموم العراقيين، فكونت مشاعر عداء في الشارع الكويتي باتت تأخذها الحكومة في تعاملها مع مايتعلق بالأزمة بنظر الاعتبار حد تكبيل حركتها في هذا الجانب، وأثارت من جانب آخر مشاعر عداء مضادة عند البعض من العراقيين باتجاه الكويت والكويتيين استثمرته الحكومة العراقية إلى ابعد الحدود لتعبئة قواتها عند الحاجة لتهديد الكويت.
وستستمر باستثماره عندما يقتضي الموقف ذلك مستقبلا، الأمر الذي يتسبب في إطالة أمد الأزمة.
استضافت السعودية أمير الكويت وحكومته بعد الاجتياح، وفتحت حدودها للكويتين للإقامة والعيش فيها ضيوف مقربين عدة أشهر، وقبلت أن تكون أرضها منطقة تحشد وخط شروع لقوات الحلفاء في حربها لإخراج القوات العراقية، فكانت طرفا رئيسا في الأزمة، تحملت بسببها جزء من تكاليف الحرب، وما زالت تدفع لتغطية مصاريف القطعات الموجودة على أراضيها ضمن الاتفاقيات الأمنية الثنائية، بالإضافة إلى التسهيلات الخاصة بانسيابية النفط ومعقولية أسعاره. ووضع من هذا النوع لا يمكن أن ترضاه السعودية التي تحملت العبىء الأكبر من الانتقاد الخاص بالتواجد الأجنبي على أرضيها العربية، لكنها ومن ناحية أخرى لا تثق بحكومة العراق التي تمتلك في التعامل معها خبرة مؤلمة في نكث العهد وغزو الكويت واحتلال الخفجي وتهديد أراضيها، الأمر الذي دفعها إلى التمسك بمواقف منسجمة مع الكويت والحلفاء تتمثل في الآتي:
1. الضغط على حكومة العراق بهدف إحتوائها حكومة ضعيفة غير قادرة على التحرك في المنطقة وإلى حين سنوح الفرصة إلى تغييرها بنظام قادر على الانسجام مع ظروف المنطقة مستقبلا. وهذا خيار أخذته السعودية بنظر الاعتبار في تقديمها مساعدات محدودة جدا لمعارضين عراقيين تم انتقائهم بدقة لإبقاء الصلة موجودة بينهم تيارات تسعى إلى التغيير، وبينها راغبة بذلك، ولو بعد حين.
2. محاولة تكوين موقف خليجي موحد من العراق والأزمة يأخذ بالاعتبار وجهات نظر الكويت من جانب، والتيار الشعبي الخليجي، والعربي الذي يتطور باتجاه الرغبة في الاسراع لإنهاء الأزمة من جانب آخر، تكون على أساسه قادرة على التحرك والمناورة مع الأمريكان للخروج من الأزمة.
3. الابتعاد عن خيار الاشتراك المباشر في مشاريع التغيير المقترحة لحكومة العراق كأحد الحلول المعقولة للأزمة، لكي تتجنب إيجاد سابقة في المنطقة العربية قد تتطور لتطال دول وحكومات أخرى غير العراق مستقبلا.
وهناك الامارات العربية المتحدة من بين دول الخليج العربي التي أُستُهْدِفتْ من قبل الحكومة العراقية بتهمة تخريب الاقتصاد العراقي قبل بدء الحرب، وكانت من بين الدول التي شاركت بقواتها ودعمها المالي في حرب الخليج، وأدت كافة إلتزاماتها في هذا المجال كاملة، لكن الامارات المعروفة بليونتها السياسية ومرونتها في التعامل مع الأحداث حاولت أن تبقي الباب مفتوحة مع حكومة بغداد بعد إنتهاء الحرب بقليل سواء عن طريق التعامل الاقتصادي الذي شهد تطورا ملموسا في السنوات الأخيرة أو من خلال المنتجات النفطية وبعض السلع التي تهرب لتباع في أسواقها الحرة بصورة شبه علنية، دون أن تسقط من حساباتها في التعامل الإقليمي مع العراق موضوع الأزمة صراعها المستمر مع إيران التي احتلت جزرها ورفضت إعادتها أو تسوية موضوعها عن طريق التفاوض أو المحاكم الدولية، حتى باتت من المنادين بإعادة التطبيع مع الحكومة العراقية، سعيا من وجهة نظرها لإنهاء الأزمة دون الحاجة للنظر إلى خلفياتها وتطوراتها الآنية والمستقبلية.
وهناك أيضا قطر التي تتقارب في مواقفها ونظرتها من الأزمة ودولة الامارات العربية المتحدة وربما تتفوق عليها بخطوات إلى الأمام ، إذ تعد الدولة الخليجية الأولى التي تنادي علنا بضرورة التطبيع مع الحكومة العراقية، وضرورة إنهاء الأزمة، وقد قامت في هذا المجال بمحاولات عدة لتأكيد وجهات نظرها هذه لدى الدول الخليجية الأخرى، وبعض الدول العربية وتقريبها من العراق، كما قدمت بعض المساعدات العينية، والدعم السياسي من خلال الزيارات التي تكررت لمسؤوليها إلى العراق ومواقف التصويت في الجامعة العربية وبعض المحافل الدولية.
أما البحرين وسلطنة عمان المتبقيتان من دول الخليج العربية، فأن الأولى لم تحاول الدخول في متاهة الأزمة أو التقرب منها، إذ أنها وبعد أن أوفت بإلتزاماتها في الحرب وتقديمها التسهيلات للأسطول الأمريكي في المنطقة، فضلت أن تنتظر مثل غيرها تطورات الموقف للتعامل مع العراق في حدود محسوبة لا ترغب تجاوزها، لتحسسها من احتمالات قيام الحكومة العراقية بلعب ورقة الطائفية التي تعاني منها في أية مرحلة من مراحل العلاقات بينهما من ناحية، وعدم وجود إرتباطات أو مصالح تجارية بين البلدين تستحق تغيير موقفها هذا من ناحية أخرى، وبذا فضلت الانتظار وعدم التقرب، وكذلك عدم إبداء الرأي، إلا ما يتعلق منه وينسجم وتصورات مجلس التعاون الخليجي التي باتت توفيقية في السنوات الأخيرة.
والثانية ـ أي سلطنة عمان ـ فإن تصوراتها لعموم الأزمة مختلف عن تصورات الخليجيين، فهي وإن اشتركت معهم في الحرب تضامنا في اللحظات الأولى لوقوع الأزمة، فإنها أبقت الباب مفتوحا مع حكومة العراق في اللحظات الأولى أيضا، وبطريقة يمكن أن تلعب من خلالها دور همزة الوصل بين اتجاهين عندما تتطلب ضرورات السياسة ذلك، وهي ما زالت على أسلوبها هذا مع رغبتها في إعادة حكومة العراق إلى موقعها العربي، معتقدة أن العودة الطبيعية ستساعد على تسوية ما تبقى من آثار الأزمة، وستسهم بإيفاء تلك الحكومة بالتزاماتها الخاصة للكويت وغيرها، دون أن تأخذ في الاعتبار طبيعة الحكومة العراقية.
إن الدول العربية التي كان لها نصيب أو حصة في وقوع الأزمة، وتطوراتها من خلال الاحترام المنقوص لنظام الجامعة العربية التي لم تتحرك بفاعلية للحيلولة دون احتلال حكومة العراق للكويت وحدوث الأزمة، ومن خلال الخرق المفضوح لنظام التصويت في مجلسها الذي سهل الحضور العسكري الأجنبي في المنطقة وزاد من شدة الآثار التدميرية لها ـ أي الأزمة ـ ومن خلال النظرة الضيقة للمصالح التي دفعت بعض الدول العربية إلى أن تتبنى مواقف اكثر تطرفا من مواقف الكويت المعنية بالأزمة، بغية جني الثمار وإن كانت على حساب المستقبل السياسي للجامعة العربية وباقي الدول العربية، وهذه التناقضات في سلوك تلك الدول قبل بدئ الحرب كانت هي ذاتها موجودة بعد إنتهائها، فأسهمت في زيادة تعقيدات الأزمة. هذا وبهدف التقليل من التشتت الذي لا يؤمِن الغاية فإن التركيز سيحري على مواقف بعض الدول العربية القريبة، وذات التأثير الفاعل بمجريات الأزمة منها:
تعاني مصر الجمهورية العربية الأكثر قدرة وترجيحا في ميزان القوى بين العرب وغيرهم من تضخم في أعداد السكان وشحة في الموارد الاقتصادية واستحقاقات للديون الخارجية، ورغبة جادة لتجاوز آثارها جميعا، وتحسين مستوى العيش، رغبة كان لها الأثر الكبير على موقف مصر ودورها ما قبل حدوث الأزمة وأثناء حدوثها، وكذلك الحال في ظروف التعامل الحالي معها، بعد أن استخدمت وبشكل دقيق ثقل وزنها بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى، ورئاستها للجامعة العربية الموجودة على أراضيها، وعلاقتها المتميزة مع الأمريكان، والجيدة مع دول الخليج العربية، والمعقولة مع باقي العرب كمركز ثقل للتعامل مع بداياتها باتجاه تغليب وجهة نظرها الخاصة بضرورة الاستعانة بالقوات الأمريكية والأجنبية لإنهائه بأسرع ما يمكن تأسيسا على تصورها لعجز العرب عن تأمين قوات كافية لتنفيذ هذه المهمة، واعتقادها أن التأجيل بصددها سيكَّون واقعا، وتبعات للإحتلال تزيد من تعقيدات حلها، وتضاعف الخسائر الناجمة عن أي حل مقترح!. وهذه وجهة نظر أدت إلى تميز الموقف المصري عن غيره من المواقف العربية في الجوانب الآتية:
1. إن مصر ورغم موقعها المذكور لم تستطع أن تحصل على إجماع القمة العربية التي ترأستها بعد الاجتياح لمشروعها المذكور في ظروف صعبة وحرجة، فاندفعت بسببه إلى إعتماد التصويت بطريقة أثارت البعض من عدم الرضا، وعلامات الاستفهام لدى قسم من الملوك والرؤساء العرب آنذاك، فكانت أولى تباشير التعقيد الحاصل في موضوع الأزمة.
2. كما أن مصر التي شاركت مع قوات الحلفاء لتحرير الكويت بجهد عسكري يفوق باقي الدول العربية الأخرى، قد حصلت على مكافئة تفوق أيضا ما حصل عليه باقي العرب المشاركين، إذ أطفأت أمريكا حوالي سبعة مليارات دولار من ديونها المستحقة مرة واحدة بعد إنتهاء الحرب مباشرة مما أثار تساؤلات أخرى وزاد من تعقيدات الأزمة.
3. ومصر التي عانت من محاولة تزعّم ذات الحكومة العراقية لمعسكر العرب الرافض لكامب ديفد عام 1979، ومحاولات عزلها ومعاقبتها بتأثير من تلك الحكومة، حاولت أن تستثمر الموقف الحاصل بعد احتلال الكويت إقتصاديا وسياسيا وعسكريا لتعود أقوى تأثيرا، وفاعلية في الوطن العربي من سنوات عزل ما زالت محفورة في ذاكرتها، فكان تحركها، ومواقفها في التعامل مع العراق، وساحة الأزمة محكوم في بعض جوانبه بهذه المعطيات التي تفرض عليها تحركا فيه نوعا من الغموض يوحي للبعض تعامل مع العراق يقرب من وقت انتهاء الأزمة، ويؤشر للبعض الآخر مرونه يمكن أن تحقق أهدافهم، فكان تناقضا زاد من تعقيدات الأزمة واستمرارها.
4. لكن مصر ومع ذلك لم ترغب في التمادي لتدمير العراق، وتفاجئت مثل غيرها بتوغل قوات الحلفاء داخل حدوده، وتدمير بناه التحتية، وتفاجئت أيضا بنتائج تقسيم التركة التي استحوذت عليها الشركات الأمريكية، ومن بعدها البريطانية، وقليل من الفرنسية في إعادة إعمار الكويت، ونتيجة لذلك استقرأت على أن تحقيق قدر أكبر من المصالح يكمن في التعامل مع العراق الحالي الذي تعي جيدا توجهات حكومته لفتح صنابير المال العراقي باتجاه من تعتقد أنه قريب منها، وتغلقها بإحكام، بالضد ممن يحاول المساس برموزها شخصيا، وهو استقراء سرَّعَ من خطواتها باتجاه العراق دون المساس الجوهري بالعلاقات الأمريكية التي شهدت فتورا ملحوظا في الثلاث سنوات الأخيرة، تلك الخطوات التي بدأت بالاتصالات السياسية وعودة التمثيل الدبلوماسي، وتبادل الوفود التجارية والإعلامية والفنية، وتسويق البضائع في إطار النفط مقابل الغذاء وأخيرا التوقيع بداية كانون الثاني 2001 على اتفاقية التجارة الحرة، وهي ذات الخطوات التي شكلت دافعا إلى مصر لأن تتبنى، ولو بشكل غير معلن إعادة تأهيل النظام العراقي، والسعي لإنهاء الأزمة بطريقة تكون فيها الحكومة الحالية الأقرب إلى مصر في تعاملها ما بعد التأهيل .
الدولة العربية الملكية التي تحالفت مع العراق البعثي الجمهوري طيلة الحرب مع إيران، وهيأت أرصفة في ميناء العقبة لخدمة تجارة العراق وإمداداته العسكرية، ولعبت دورا في تقريب وجهات النظر في السنوات الأخيرة للحرب بين العراق والأمريكان الذين أمدوا فيها العراق بالمعلومات الاستخبارية، وبعض التقنيات التي أسهمت في إنهاء الحرب عام 1988، واستمرت كذلك حليف قوي للعراق حتى سنة الغزو الذي تعاملت معه وتطورات الأزمة بطريقة عقلانية تختلف إلى حد ما عن تعامل عديد من العرب الآخرين، وهو تعامل تأسس على:
1. انتقاد حكومة العراق على إحتلالها الكويت، مع التنويه بتقصير الكويت في التعامل مع ظروف العراق.
2. الدعوة الملحة لأن يكون الحل الخاص بالأزمة عربيا، وتكرار هذه الدعوة على الرغم من عدم تمكنها تحقيق ذلك بسبب قوة التيار الداعي إلى التدخل العسكري الامريكي المباشر.
3. الاحتفاظ بعلاقات مقبولة مع العراق بعد إنتهاء الصفحة العسكرية للحرب، مع السعي لعودة علاقاتها السابقة مع السعودية ، والكويت، وباقي دول الخليج، وكذلك إبقاء العلاقة متميزة مع الأمريكان في معادلة ليست سهلة، استطاعت في النهاية تحقق جزء منها وبقدر معقول.
هذا وإن الاردن الذي ارتبط اقتصادها باقتصاد العراق، مستمرة في التعامل مع حكومته على ضوء المعرفة الجيدة بالخصائص النفسية لتركيبتها، والفهم التام للحاجة الملحة إليها منفذا وحيدا لحركتها الخارجية حتى السنوات الأخيرة، وبالتحديد عام 2001 الذي شهد محاولات لفتح منافذ أخرى، فكان تعامل قد تأسس على تلك المعطيات التي تؤمن أكبر قدر من المصالح، وبأقل الخسائر، أظهرت في طياته قدرة على جمع النقيضين يصعب جمعهما من العرب الآخرين وكما في المؤشرات الآتية:
أ. بالوقت الذي تتعاقد فيه الأردن على بروتوكول للتعاون مع حكومة العراق تحصل بموجبه على النفط الرخيص أو المجاني وعلى فرص لتصدير بضائعها، تنتقد بين الحين والآخر بعض تصرفات تلك الحكومة، وتؤكد علنا حاجة العراق للتغيير إلى الديمقراطية.
ب. وبالوقت الذي تعطي فرصة لفتح أضخم سفارة للعراق بالمنطقة تتحرك فيها المخابرات العراقية بسهولة ويسر، تسمح بتَحرّكٍ مقنن للمعارضة العراقية ولقليل جدا من فصائلها لفتح مقرات لها في الأردن.
وتلك مواقف دقيقة إنعكست على وجهة نظر الأردن في موضوع الأزمة تتلخص في:
1. الرغبة الجادة لإنهائها تعاطفا مع الشعب العراقي الذي خبر الأردنيون معاناته عن قرب.
2. تمني أن تكون النهاية تغييرا ولو بقدر محدود من الديمقراطية ، وإن كان الثمن زوال الحكومة الحالية.
3. عدم التفريط بعلاقاتها مع حكومة العراق، بالمراهنة في الاشتراك طرفا في عملية التغيير ولو بشكل غير مباشر.
تناصب سوريا حكومة العراق عداءا مريرا منذ العام 1979، وعلى الرغم منه حاولت جاهدة دون تطور الأزمة وذلك بحثها " الحكومة العراقية " على الانسحاب من الكويت، وتجنيب العراق والأمة العربية كارثة أدركت جسامتها، وذلك من خلال الرسائل التي وجهها الرئيس حافظ الأسد إلى صدام حسين رغم القطيعة الحادة بينهما إثر إتهام الأخير بعد استلامه السلطة الرئيس الأسد جزافا بالتآمر على العراق سعيا منه ـ أي صدام ـ لإفشال مشروع الوحدة الذي أوشك على التنفيذ، وكذلك لإستثماره حجة لذبح عشرات البعثيين القياديين الذين يمكن أن يقفون في طريق ترسيخ سلطته وعائلته في حكم العراق.
لكن سوريا التي أدركت أبعاد الموقف شاركت بقوات رمزية في التحالف ضد العراق، وانسحبت منها سريعا إثر إكتشافها أن الأهداف لم تتوقف عند إخراج القوات العراقية من الكويت، وإنما ستمتد لتدمير العراق، تدميرا لم تكتف سوريا بشجبه، بل وحاولت جاهدة دون تحقيقه لحسابات الثقل العراقي الداعم لتوازنها والعرب مع الاسرائيلين، وكانت نتيجة مشاركتها اتفاق تم بينها ومصر من جانب ودول الخليج من جانب آخر حول ما سمي في حينه بإعلان دمشق، الذي قُدم من دول الخليج بصيغة المجاملة لمشاركة الدولتين العربيتين المهمتين في الحرب، وبصيغة الأمل في احتمال تحقيق مكاسب اقتصادية تحسن من وضعهما الاقتصادي غير المستقر.
كما إن سوريا ومنذ الأيام الأولى للحرب وما بعدها أعلنت مواقفها الرافضة لضرب العراق وتدمير جيشه، ومنشآته الصناعية والاقتصادية ، حتى تطورت مناداتها هذه إلى مواقف قربتها تدريجيا من حكومة العراق، وكونت بالتتابع أرضية مشتركة للتحاور، وتفهم المصالح المشتركة في تقرب العراق منها ليكون عمقا لها في صراعها، وتوازنها مع اسرائيل بعد بقائها الدولة العربية الوحيدة من دول الجوار دون توقيع لاتفاقية صلح معها، وفي تقربها من العراق الذي تستثمره حكومته الحالية واقعا لثلم الحصار المفروض، لما تتمتع به سوريا من حدود واسعة في غربه، وعلاقات مقبولة مع الدول العربية والخليج.
ومن هذه الباب بدأ الطرفان خطواتهما التي أثمرت عن تمثيل قنصلي محدود لكلا البلدين بعد عشرين سنة من القطيعة ، وتبادل تجاري، وضخ للنفط العراقي الرخيص، وأخيرا توقيع لإتفاقية التجارة الحرة في 30/1/2001 على غرار الاتفاقية التي وقعت مع مصر بداية الشهر ذاته.
وهذه تطورات ستنعكس على موضوع الأزمة من جوانب عدة بينها:
1. الرغبة السورية لإنهاء الأزمة وإعادة تقوية العراق عنصرا فاعلا في التوازن العربي مع اسرائيل من جهة، وتركيا من جهة أخرى، وإن بقيَّ النظام الحاكم على رأس السلطة الذي قد تكون قد اقتنعت سوريا باحتمالات بقاءه، وإعادة تأهيله مطلبا دوليا في السنين الأخيرة.
2. السعي لتسوية وضع المعارضة العراقية التي تتمتع بحرية تحرك سياسي، وإعلامي جيدة على ساحتها بالمقارنة مع تحركها المحدود أو غير الموجود في باقي الدول العربية.
3. إسقاط الفرض الذي يبقي سوريا عنصرا يمكن التعويل عليه بالمشاركة في التحرك من أجل التغيير لنظام الحكم الدكتاتوري في العراق وإقامة الديمقراطية.
ومع هذا التطور يبقى السؤال الذي يشغل بال السياسيين العراقيين وغير العراقيين في موضوع العلاقة بين العراق وسوريا ماثلا وقوامه:
هل لدى القطرين العربيين المتجاورين في الوقت الحاضر امكانية تجاوز الألغام والمصائد التي زرعت من القوى الخارجية على طول المسافة الشاسعة بينهما، والتي مازالت قادرة على تفجيرها بالوقت المناسب؟
وتبقى الإجابة الأكثر رجحانا أن ذلك أمر صعب في ظروف بقاء حكومة العراق الحالية !.
قامت الثورة الاسلامية في إيران عام 1979، ومع بداياتها طرحت شعارات تتمحور حول تصدير الثورة إلى الخارج، وخاصة إلى الدول العربية، والاسلامية التي تتواجد فيها جالية شيعية إعتقد الإيرانيون أنها أرضا خصبة للثورة، وإعتقدت حكومة العراق، وبعض الدول العربية القريبة أن أنظمتها مستهدفة كمجال للتنفيذ الفعلي لتلك الشعارات ساعدهم على ترسيخ هذا الاعتقاد الحماس الثوري لبعض الايرانيين، ومفردات التسميم السياسي التي بدأت تأتي من الغرب مؤكدة ذلك الحماس، وبذا تكَّون إيحاءا مضادا للثورة في الأيام الأولى لحدوثها تطور إلى رغبة للقيام بعمل ما، ومن ثم استعداد للقيام به لإفشالها " الثورة " أو إجبارها على الارتداد إلى الداخل وتناسي الامتداد إلى الخارج على أقل تقدير.
فكانت حرب الخليج الأولى " الإيرانية العراقية " برؤى غربية أمريكية وبتمويل عربي خليجي وأداة موت عراقية، إنتهت بعد ثمان سنوات بصيغة التعادل السلبي إذ ورغم الخسارة شبه المتعادلة في نتيجة الحرب التي دارت بين الدولتين ، لكنها بالنسبة إلى العراق كانت خسارة حاول العالم الغربي التقليل من شأنها إعلاميا ، وأحيانا إبراز بعض النقاط التي صيغت إيجابية لصالح صدام وحكومته اللذان بذلا جهدا كبيرا في إخراجها حقائق تقريبية لإقناع العراقيين والعرب وأنفسهم بصحة وجودها، خطوة يبدو أنها كانت مدروسة للتمهيد إلى قرار الحرب الخليجية الثانية وتكوين الأزمة، وتركت كذلك آثار لم تنته جميعها بالنسبة لإيران والعراق معا، من بينها:
1. التبادل الكامل للأسرى، وتحديد مصير المفقودين.
2. البت بمن بدأ الحرب ومسائل التعويضات.
3. إرهاصات التنازل التكتيكي عن بعض المناطق الحدودية والعودة إلى إتفاقية الجزائر عام 1975.
4. تطبيع العلاقات.
.... الخ من متعلقات كانت من بين الأسباب التي استثمرت من الخارج لإبقاء العراق في حالة توتر وإنفعال ساعد على دفعه باتجاه احتلال الكويت، وإفتعال الأزمة التي وضعت إيران في موقف حرج منذ البدايات الأولى لها.
لكن إيران ورغم وزنها الإقليمي في المنطقة الذي يتأسس على عدد سكانها الذي يزيد عـــن 70 مليون نسمة وإنفاقها العسكري الذي يتجاوز 4 بلايين دولار ســـــــنويا وتـعداد قواتها المسلحة الذي يصل إلى 500 ألف جندي بالإضافة إلى 350 ألف من الاحتياط المدعوم بدبابات يصل تعدادها إلى 1440 دبابة، و300 طائرة مقاتلة قاذفة، وقدرة صاروخية استراتيجية، قد أدركت إنها قريبة من حافة بركان التقرب منه ولوج في الكارثة، والابتعاد عنه تنازل عن المبادىء والأهداف. وبالتالي تصرفت بحيادية دقيقة طمأنت العراق ليستمر في معاقبة الكويت والسعودية أطراف الحرب الأولى غير المعلنة، ويدمر نفسه تدميرا عجزت هي عن القيام به لثمان سنوات، ويحقق لها بالمحصلة أكثر من مائة وعشرين طائرة عراقية مختلفة الأنواع تُقنع المتشددين باعتمادها بديلا عن التعويضات التي طالبوا العراق بها، ويحقق لها إضعافا للعراق والدول العربية القريبة
في توازنهم الاقليمي معها. إلا أن هذا الحياد الحساس كاد أن يخترق إبان الانتفاضة بسبب التواجد النوعي لبعض فصائل المعارضة العراقية، وإقامة جالية عراقية ليست قليلة على أراضيها، لكنها ضغطت باتجاه الإلتزام به نتيجة لتحذيرات الأمريكان الذين لا يرغبون بأي تقارب إيراني وحكومة عراقية محتملة، ولحسابات داخلية وإقليمية وجدت فيها أن عدم التدخل والانتظار هو الأكثر أمانا في ظروف التأزم غير الاعتيادية.
كما إن إيران التي إقتنعت بالنتائج التدميرية لحرب الخليج الثانية بالنسبة للعراق والكويت في آن معا حاولت بعد إنتهائها أن تستثمر فرص الكسب الاقتصادي المتاح شأنها شأن الغير في المنطقة والبعيدين عنها، ولو بشكل محدود، وذلك بفتح حدودها للبضائع العراقية المصدرة، والسماح بتصدير إخرى إلى العراق، مع العمل على شراء النفط العراقي بأسعار تصل إلى أقل من نصف سعره في السوق العالمية، وإعادة بيعه نفطا إيرانيا حقق لها أرباحا جيدة ، وحقق لحكومة العراق سيولة لازمة لديمومة وجودها الأمني والاستخباري، وهذه تطورات استفادت منها إيران أيضا في الوصول إلى تفاهم ولو مؤقت مع تلك الحكومة للتقليل مـــــــن النشاط العسكري لمجاهـــدي خلق المعارضة ضد أهداف في العمق الإيراني وبحدود ملموسة، مقابل الحد من نشاط قوات فيلق بدر العراقية المعارضة وعمليات المجلس الأعلى للثورة الاسلامية، وعدد من الفصائل الإسلامية المعارضة في العمق العراقي، ونرى هذا بشكل واض لتطورات الأحداث بعد عم 1998 بين البلدين والتي سميت في حينها حرب الإنابة بين العراق وإيران ، التي تقوم فيها منظمة مجاهدي خلق على سبيل المثال بعملية قصف بالهاونات على أهداف حكومية داخل طهران، تعقبها بعد فترة ليست بعيدة قيام خلايا للمجلس الأعلى للثورة الاسلامية وقوى معارضة أخرى بضرب القصور الرئاسية وأهداف أمنية داخل بغداد، وهكذا تكررت الحالة أكثر من مرة، وحدوثها لا ينفي وجود التفاهم المذكور، بل ويؤكد وجوده ورقة يحاول كل طرف التلويح بها للطرف الآخر بين الحين والآخر بغية الحصول على فرص أفضل للضغط على المقابل تساعده في تأمين مكاسب أفضل في مضمار الصراع الواسع بين الطرفين.
إن الظروف والملابسات والتحديدات المذكورة كون موقفا لدى الإيرانيين من الأزمة لا يقل تعقيدا عن مواقف الدول الأخرى، يتأسس على الرغبة الجادة لإنهاء الأزمة بصيغة التغيير الجذري لحكومة العراق الذي يؤمن:
1. بطلان حجج استمرار التواجد الأمريكي المقلق في جوارها.
2. إنتهاء شكل الصراع الدائر بين البلدين والتخلص من أعباء العراقيين اللاجئين والمسفرين المتبقين على أراضيها.
3. مساعدتها على التفرغ إلى إعادة بناء إقتصاد بلدها الذي يعاني مشاكل عديدة.
لكنه تغيير لا ترغب أن تكون طرفا مباشرا فيه لعدة أسباب أهمها:
1. لإن وجودها المباشر في عملية التغيير خيار يعني التنسيق مع الشيطان الأمريكي الأكبر، الذي يَعِدُ بالتغيير والقادر على دعم تحقيقه. وهذا أمر لا يتلائم وتوجهاتها الشرعية، والفكرية، والاستراتيجية.
2. إي نوع من المشاركة دون التنسيق مع الأمريكان، وإن كانت غير مباشرة يعني التجاوز على الخطوط الحمراء التي رسموها للتعامل مع موضوعه " التغيير "، وفي هذه الحالة ستتحمل أعباء الرد الأمريكي المحتمل لقوات تتواجد عدة كيلومترات عن أراضيها، ومياهها الإقليمية، وهذا ما لاطاقة لها به.
وهو تغيير أيضا لا تود أن يكون غير إسلامي شيعي، ولا من خارج التيارات العراقية المعارضة التي تتعامل معها رغم قناعتها أن هذه التيارات لوحدها غير قادرة على التغيير من الداخل في الوقت الحاضر. وتلك كانت متغيرات جعلت في نهاية الأمر أن يكون موقف إيران من الأزمة:
وقوفا في صف الذين ينتظرون التطور في المواقف الدولية والاقليمية عسى أن يهيء فرصة للتغيير كما تراه هي مناسبا، وبعكسه فإن الانتظار الطويل مع حكومة العراق الضعيفة أقل خسارة من الخيارات الأخرى، والتعامل معها لعبة شد الحبل أقل كلفة بالنسبة لها من كل الوسائل الأخرى المتيسرة في الوقت الحاضر.
ومع ذلك فإن موقف إيران من عموم المنطقة قد تغير بعد الحرب وحدوث الأزمة إذ أنها بدأت بعلاقات جديدة مع دولها أدخلتها مرحلة جديدة من تخفيف التوترات، وإثرها لم تلوح بتصدير الثورة، وعوضا عن ذلك توجهت لتحسين صورة الثورة الاسلامية ، مدعمة بنزعة واقعية ملحوظة في خطابها السياسي الراهن، وهي اليوم أقرب للمنطقة والعرب من أي وقت مضى، وربما ستتحول في المستقبل القريب من مصدر تهديد إلى رصيد محتمل للأمن الإقليمي والقومي العربي، إذا ما استطاعت تجاوز موضوع إحتلالها للجزر الإماراتية في الخليج، وإذا ما أستطاع العرب أسيعاب ستراتيجيتها وقبولها دولة إسلامية "شيعية: في محيطهم السني واسع التأثير.
تعد تركيا وبكل المعايير الاستراتيجية من الدول القريبة من بؤرة الأزمة لوجودها جارة للعراق موضوعها ـ أي الأزمة ـ وقربها من الخليج العربي ساحتها، ولإرتباطاتها الخاصة بالمنطقة وخارجها، وكذلك لفاعلية وزنها في التوازن الاقليمي، إذ تفوق مساحتها مساحة العراق وسوريا، ويزيد عدد سكانها عنهما ودول الخليج، وضخامة إنفاقها العسكري الذي يصل إلى 6 بلايين دولار سنويا، وسعة تعداد قواتها المسلحة التي تزيد عن 600 ألف جندي مدعومين بقدرات قوامها 4000 دبابة و430 طائرة مقاتلة حديثة، و20 سفينة حربية، و16 غواصة، واشتراك فعلي في بنية حلف الشمال الأطلسي. الأمر الذي جعلها من بين أبرز حلفاء الأمريكان في حرب الخليج الثانية بعد الانجليز والفرنسيين من خلال مشاركتها بقوات عسكرية، وموافقتها على استخدام قواعدها الجوية لطائرات الحلفاء، وتهديدها بالضغط على العراق. وكان موقفها هذا قد تأسس على عدة اعتبارت بينها:
1. كانت تركيا تعد العراق قبل الأزمة بمثابة حجر الزاوية، بل والقاطرة التي تشد مجمل العلاقات العربية ـ التركية نحو تحقيق مصالحها الشاملة، وخسارته ينبغي أن تعوض بقدر كاف، وهذا تصور دفعها إلى الاشتراك بوزن فاعل، والاستمرار به حتى النهاية.
2. لا تحبذ تركيا أي توسع للعراق على حساب دول المنطقة إلى المستوى الذي يمكن أن يشكل فيه تهديدا لأمنها القومي.
3. وجدت " تركيا " في أزمة العراق والمنطقة فرصة يمكن استثمارها في عدة اتجاهات:
أ. تعزيز دورها الاستراتيجي في عموم المنطقة بعد زوال الخطر السوفيتي.
ب. تأكيد أهمية دورها في إطار التحالف الغربي الذي يمكن توظيفه لزيادة احتمالات دخولها في الجماعة الأوربية.
4. لم تنس تركيا في خضم الأزمة لعب ورقة التركمان في العراق كأقلية تتمركز في مناطق انتاج النفط (كركوك ـ الموصل ) أملا في الحصول منها على أفضلية في توازنها مع العراق والعرب مستقبلا حيث أكدت على لسان رئيس وزرائها آنذاك ( أن إعادة تكوين العراق بعد الحرب يجب أن تضمن حقوقا ديمقراطية لعموم الشعب العراقي بما في ذلك الأقلية التركية )، كما قدم وفي ذات الوقت مشروعا لتقسيم العراق على أساس الفدرالية ، ثلاث دويلات عربية وكردية وتركمانية.
وبذا كان موقفها عدم الاكتفاء بالمشاركة العسكرية في الحرب، والضغط لتشتيت قوات العراق، ومنع تدفق المياه إليه، بل وذهبت حد التهديد بفتح جبهة معه، وسمحت بدخول القوات الأمريكية والبريطانية والفرنسية إلى شماله، وتشجيع الأكراد على القيام بعمليات مسلحة ضد جيشه.
إلا أن علاقة تركيا بالأزمة تختلف من زاوية المشاركة، ففي الوقت الذي أنهت غالبية الدول تحالفها وسحبت قواتها من المنطقة باستثناء الأمريكان وأقل منهم الانجليز، فإن تركيا أبقت مشاركتها فاعلة من خلال التخصيص الاستراتيجي لقاعدة أنجرليك الجوية لطائرات الحلفاء التي تنفذ مهام حظر الطيران شمال الخط 36، بسبب تقديرات خاصة بها ضمنت على أساها ثمنا يتمثل:
1. إطفاء لبعض الديون المستحقة للولايات المتحدة الأمريكية.
2. مرور معظم النفط المصدر من العراق لاتفاق النفط مقابل الغذاء والدواء عبر إنبوب النفط العراقي التركي.
3. السماح لآلاف الشاحنات الحوضية بنقل المنتجات النفطية العراقية لبيعه في أراضيها مقابل مواد وتجهيزات ومنتجات تركية.
4. موافقة غربية أمريكية لتحرك قطعاتها في شمال العراق لمطاردة أفراد حزب العمال الكردستاني التركي وفي أي وقت تراه مناسبا.
ذلك كان ثمنا من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية مثاليا بالنسبة إليها، وكــــــذلك من الناحية السياسية بعد أن خلصها من أية ضغوط محتملة من العراق وسوريا والعرب في تحركها تجاه الاسرائيلين والغرب، وهو وضع ساهم بتكوين وجهة نظرها من الأزمة على النحو الآتي:
1. عدم الاكتراث بتفاصيل ومتغيرات الأزمة أو بمعنى آخر عدم المبالاة باستمرارها ما دام الاستمرار يخدم مصالحها العليا.
2. عدم الميل إلى تغيير نظام الحكم في العراق تغييرا جذريا عن طريق الجهد المعارض في العراق، لأنه تغيير ينذر بخلق واقع للعراق يحصل فيه الأكراد على الفدرالية التي ترى فيها استثارة لأكرادها واضطرابا لاستقرار منطقتهم بشكل يسحبها إلى خوض صراع سوف لن تتوقف معالمه عند حدود معينة، رغم دعمها لأهداف فصائل معارضة عراقية تركمانية بالفدرالية المحتملة للتركمان أسوة بالأكراد.
لكن تركيا ورغم وجهة نظرها المذكورة في أعلاه فإنها نجحت في مد جسور ليس مع الحكومة العراقية فقط، بل وكذلك مع الحزبين الكرديين الرئيسين المعارضين في كردستان العراق ( الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الديمقراطي الكردساتاني )، سعيا منها لتحجيم فاعلية حزب العمال الكردي المعارض، ولأن يكون لها حضورا في تصوراتهما لأية حلول ممكنة لوضع منطقتهم في إطار عموم الأزمة.
إن تركيا ورغم قناعاتها بصواب نظرتها في التعامل مع جوانب الأزمة فإن تحالفها مع الأمريكان، وعضويتها في حلف شمال الأطلسي، وسعيها للانضمام إلى المجتمع الأوربي يجعلها أكثر مرونة من غيرها في تغيير تلك النظرة، وبما يتناسب ووجهة النظر الأوربية، والأمريكية عندما تحين الفرصة، أو يطلب منها ذلك.
الأزمة حالة طارئة تجاوزت العراق إلى دول الخليج العربي ودول عربية وأجنبية أخرى، لم يكن حدوثها لأسباب خاصة بالعراق لوحده، وإن قامت حكومة بغداد بأعمال أدت إلى حدوثها، كذلك لم تكن ظروف العراق، ولا أسلوب حكومته في الإدارة، وطبيعة مجتمعه هي الدوافع الوحيدة لإختياره بؤرة للأزمة ، بل وكان النفط إنتاجا وخزينا وأسعارا وأرصدة، وكانت ظروف المنطقة وطبيعة موقعها، على سبيل المثال من بين العوامل التي دفعت الدول العظمى لإختيارها ساحة صالحة لعودتها المباشرة بغية إعادة ترتيب أوضاعها ـ أي المنطقة ـ بصيغة تكون فيها منطقة نفوذ واحدة لتلك القوى القادرة بوجودها القريب من التحكم بالنفط طاقة لازمة لاستمرارها قائدة للنظام العالمي الجديد، وعلى تكوين ظرف ضاغط يبين قوة فعلها في التعامل مع أزمات من نوعها في أماكن أخرى من العالم المطلوب أن تتحرك فيه السلع ورأس المال والمعلومات والأفراد بحرية ودراية المعنيين بذلك النظام ، وهذه أهداف يصعب تحقيقها دون أزمة تكون غالبية الدول في ساحتها طرفا فيها فكانت حرب الخليج الثانية.
وإذا ما أضفنا الصراع العربي الإسرائيلي عاملا آخرا نتلمس في ضوءه مثلا أن التوازن بين طرفي الصراع قبل حرب الخليج، توازن وإن كان لصالح إسرائيل في أغلب جوانبه، لكنه مقبول بالمقارنة مع واقع اليوم، وفي حدوده كان العرب قادرين على الاستمرار بإدارة كفة الصراع على وفق قرارات الأمم المتحدة، وعلى تحمل الخسائر الناجمة عنه وبالقدر الذي يكفل لهم المطلبة ببعض الحقوق، ومقاومة الضغوط الدولية التي تسعى لسلبهم إياها، في حين تغيرت الحالة بعد الحرب تغيرا جذريا قَبِلَ فيه الغالبية جلوسا علنيا مع عدوهم، ورضوا بالحد الأدنى من المطالب، بل وركض البعض إلى الأمام محاولا إعطاء الكثير قبل أن يقبض قليلا من الوعود التي لا تأثير له علــــى آليــة تنفيذهــا، فــكانت حرب الخليج الحدث المطلوب لصلح محتوم يدخله الجميع دون ما استثناء، ولو على مراحل .
إن وقائع الأحداث تشير إلى الأثر الكبير للعامل الدولي في الأزمة، وفي مجاله نتلمس أن حكومة صدام مثلا لم يكن لها أن تغزو الكويت لولا الفوضى التي كانت تسود الميدان الدولي نهاية ثمانينات، وبداية تسعينات القرن الماضي، لأن فترة الحرب الباردة قبلها كانت قد فرضت قيود نسبية على قدرة دولة ما محسوبة على، أو موالية إلى دولة عظمى في أن تهاجم دولة هي الأخرى محسوبة على أو موالية إلى دولة عظمى مقابلة، وبالتالي لم يكن للحكومة العراقية المحسوبة على الاتحاد السوفيتي والمرتبطة معه باتفاقية صداقة وتعاون أن تهجم على الكويت التي لها وزنها المالي والنفطي المحسوبة على الغرب بعيدا عن التفاعل الذي حصل بين وجودها، وعوامل داخلية أخرى مع متغيرات العامل الدولي وكما مبين في الأمثلة الآتية:
1. لم يكن لحكومة صدام أن تتخذ قرار الحرب لو لم تفسر وتبعا لرغباتها وخصائصها تفسيرا خاطئا نتائج الفراغ والارتباك الذي عم العالم بعد الاتفاق على إنهاء الحرب الباردة على إنه مجالا مناسبا لحرية تحركها باتجاه القصاص وتصفية الحسابات، والتخلص من الديون.
2. وإن سرعة تنفيذها قرار الحرب قبل أن تضمد جراحها من حرب الثمان سنوات مع إيران ما كانت تحدث لو لم تقع في فخ الإيحاء الأمريكي، بمحض إرادتها وفي ظروف غياب التهديد التقليدي للاتحاد السوفيتي لمصالح الأطراف المقابلة.
3. وما كان اتجاه حكومة صدام نحو الحرب، وغزو الكويت يكون عمليا لو لم تقدر وبسبب قصور في نظرتها المستقبلية لوقائع الأحداث تقديرا ينبأها أن العالم الغربي سوف لن يكون معنيا بأزمة إقليمية إذا ما بقيّ النفط يتدفق عليه بأسعار معقولة وربما أقل من أسعار الأمس بعد أن يتضاعف الخزين، والقدرة على الإنتاج والتصدير في الوضع الجديد.
كانت تلك من بين العوامل الدولية التي تفاعلت مع طبيعة حكم صدام التي تساعد صيغ تشكيلها على اتخاذ القرارات الفردية، وتفاعلت مع خصائص الفرد متخذ القرار " النفسية " فكانت حرب الخليج الثانية التي كونت أزمة للعراق والمنطقة على أساسها يمكن استنتاج:
1. أدخلت حكومة صدام في أزمة وجدت إثر تطوراتها أنه مكبل بقرارات وقيود، وإن نفذها حرفيا سوف لن يكون قادرا على الخلاص منها أزمة خانقة، إلا بموافقة وشروط تفرضها قوى عظمى بعيدا عن مجلس الأمن والأمم المتحدة، وبما يؤمن مصالحها المطلقة التي يقع بعضها خارج حدوده الإقليمية، الأمر الذي قلل من خيارات الحكومة المذكورة، وأجملها بالانتظار تحت وطأة الضغوط المختلفة إلى وقت تجد فيه تلك القوى أن إعادة العراق إلى ما كان عليه عربيا، ودوليا يقع ضمن مصلحتها الاستراتيجية ، وبالتالي أصبح التنفيذ الحرفي للشروط ، والتمرد على تنفيذها ، والانتظار خيارات للتعامل السياسي العراقي مع الأزمة نتائجها جميعا خسارة للعراق ونزف مستمر لجراحه المثخنة.
2. إن الأخطاء التي إرتكبتها حكومة صدام والآخرين في التقدير، وعدم إدراكهم لأبعادها المستقبلية قد لعبت دورا في إشعال الحرب الخليجية الثانية، وتسببت في أضرار كبيرة للعراق والكويت في آن معا ولعموم الوطن العربي بدرجة أقل. وأضرارها لن تتوقف عند جوانب التدمير المادي بل تعدته إلى الجوانب النفسية عندما شعر العرب مع بداية حدوثها بعدم قدرتهم على إيجاد حل مناسب لها، وأحسوا في أوج استعارها أنهم غير قادرين على إطفائها، وعلموا من سير وقائعها أن البعض منهم يزيد من اشتعالها ، وتلمسوا في نهايتها خرابا وضعفا وتأخرا وانقساما وإحباطا ستظل آثاره المؤلمة في ذاكرتهم العربية لعشرات السنين.
3. إن نتائج حرب الخليج وطبيعة الأزمة أضعفت العراق، ومن ثم العرب، وأغْرَت دول الجوار بممارسة النفوذ والتغلغل في الشأن العراقي، ودفعتها إلى السعي للمشاركة بدور ما في الترتيبات الإقليمية الجديدة لمرحلة ما بعد الأزمة.
4. إن الآثار السلبية للحرب والأزمة ستطال شريحة أوسع من العرب والعراقيين، لأن مشاهدها هذه المرة مختلفة تماما عن مشاهد الحروب والأزمات السابقة التي إعتاد الحكام والإعلام إخفائها أو تحوير نتائجها ظاهريا، وعجزهم هذه المرة لا يتعلق بضعف قدراتهم في هذا المجال، بل وبرغبة النظام العالمي الجديد جعلها رواية أو مسرحية يطلع عليها الجميع فيها:
عرب َيقتلون وعرب ُيقتلون.
ثروات الأمة النفطية يحرقها القوميون دعاة الوحدة ليطفئها الأجانب المستعمرون
شباب يئسوا من واقعهم ، إرتَدّوا عن وطنيتهم ، توجهوا إلى الغرب يطلبون حل من أصحابه غير الشرعين.
هاجروا وهجروا ولجأوا، سعيا لأمان بات مفقودا في وطنهم كنتيجة للحلول المطروحة.
وبمحصلة يمكن تلخيصها فيما يتعلق بالعراق بعبارة واحدة:
إنها أزمة قد غيرت كل شيء في العراق حتى يمكننا القول أنه وإن انتهت سوف لن يكون العراق هو نفس العراق مرة أخرى.
إن العرض المذكور لعديد من المتغيرات الدولية التي دفعت لقيام حرب الخليج الثانية وإثارة الأزمة، وتفاعلها مع العوامل الداخلية ذات الصلة بالعراق وطبيعة المنطقة التي حدد الخليج ساحة للأزمة والعراق بؤرة لها، والتنويه لهامش حركة الأطراف المعنية بالتعامل معها وخيارات الحكومة العراقية المحدودة لتجاوزها، وامتدادات تأثيرها إلى خارج المنطقة والعالم، وإتساع ساحة ملعبها وكثرة اللاعبين فيها ... الخ من المتغيرات والعوامل والمعطيات التي ذكرت في هذا العرض والتي تدفع إلى التأكيد على:
1. إن الأزمة معقدة وشائكة بمستوى يفوق قدرة أصحابها المحليين للتخلص منها بإرادتهم، وتعقيداتها الشديدة مرتبطة بطبيعة أطرافها وآليات إدارتها ومسرح عملياتها ،وماهية القضايا محل النزاع فيها، وخصائص البيئة الاستراتيجية المحيطة بها، إضافة إلى استمرار حالها لفترة طويلة.
2. إن كثرة الأطراف المعنية بالأزمة، وكثرة الراغبين في التقرب منها والاستفادة من واقعها، لم يلغ حقيقة كون النهايات الخاصة بخيوط التعامل معها بيد الأمريكان اللاعب الأقوى في ساحتها، وهذه حقيقة تضيف معالم تعقيد أخرى لموضوع الأزمة تتعلق بالتناقض الموجود في النظرة الإقليمية إلى أمريكا وجديتها، ونزاهتها في التعامل الذي يتمحور في أغلبه بين:
أ. حكومات مؤيدة لها وأخرى معارضة لوجودها.
ب. حكومات مجبولة على التأييد ، وأخرى لا تأبه بالمعارضة.
ج. حكومات تقبل بها كتحصيل حاصل، وشعوبها لا ترضى بوجودها غير المبرر.
د. حكومات تسعى إلى إنهاء هذا الوجود لتحسسها من آثاره الجانبية، وحكومات تدفع من ميزانيتها الكثير ثمنا لإستمراره.
هـ شعوب تنظر لها صديقا، وقف بجانبها في ظروف صعبة ، وشعوب مجاورة ترى فيها عدوا تسبب في تدميرهم، وإن لم يكونوا طرفا في تسبب تلك الظروف.
و. أطراف ترى في التعامل مع أمريكا ضرورة تمليها الظروف السائدة، وأطراف أخرى تعتقد أن التقرب منها عمالة وخيانة وطنية لا تغتفر.
... الخ من أوجه التناقض التي تشوه النوايا، وتزيد من تحسس التعامل مع الأمريكان وهم يملكون مفاتيح الحل لهذه الأزمة.
3. إن الثمن الذي سيدفع من العراق وعرب المنطقة بسبب الأزمة سوف لن يتوقف عند حدود المال والنفط ، بل وسيمتد تبعا للآثار الجانبية إلى مستقبلهم السياسي الذي سيعاد ترتيبه بمراحل، وبما ينسجم والعودة التي تمت إلى المنطقة، وتوجهاتها في ترسيخ ركائز النظام العالمي الجديد الذي لا يقبل ضمنا كثيرا من القيود، والأساليب والتقاليد الموجودة في ربوعها حتى وقتنا الراهن.
إن معالم التعقيد في أزمة العراق والمنطقة من الناحية السياسية لا ينبغي النظر إليها من زاوية اليأس والاحباط وعدم التمكن التي تزيد بطبيعتها من الثمن المدفوع بسببها، لأن الدول الكبرى ذات الصلة بها وبينها أمريكا لم تنظر إليها من هذه الزاوية الضيقة، ولم تحضر إلى منطقتها بسب الرغبة في الثأر والانتقام التي تحتم السير في طريق ضيق وباتجاه واحد، بل وكان مجيئها سعيا جادا لتأمين مصالحها على وفق رؤيتها في النظام العالمي الجديد، وهو نظام يسمح بتأمين مثل هذه المصالح دون الإلغاء التام أو التنكر الكامل لمصالح الآخرين، أي أنه نظام لا يعني إنعدام الفرص المتاحة للعرب في تعاملهم مع أمريكا لأن هذا النظام بطبيعته يرتب فرصا يمكن استثمارها، ومخاطر يجب تجنبها، هذا من جانب ومن جانب آخر فإن تعامل أمريكا مع واقع الأزمة قد تم على وفق فلسفتها الرأسمالية، صَفقة وظِفتْ للفوز بها كثير من الجهود العسكرية والسياسية والإعلامية والبحثية، والصفقة يعني الاستمرار بها عدم التوقف عن حدود النظر بزوايا محددة، والسير باتجاهات معينة، بل والمناورة على كل الاتجاهات التي تحقق ربحا أكثر وكلف أقل.
وهذه الرؤية تفتح الباب أمام الجادين للتعامل مع الأزمة:
1. حكومات يمكن أن تلعب بأوتار الربح والخسارة التي تملك ولو قليل من متغيراتها، الأمر الذي يدفع القوى المعنية إلى قبولها أطراف في الحلول المقترحة.
2. شعوب، تظهر بحركتها الموحدة، وتأثير فعلها المنظم أن وجودها في الملعب يؤثر على كم الربح ونسب الخسارة.
3 . حركات وقوى معارضة تثبت، أنها قادرة على التعامل بنفس المنطق الرأسمالي الذي يبقي قدرا معقولا من الربح، ويقلل كثيرا من نسب الخسارة، إذا ما تأمنت وبمستوى مقبول لمصالحها الوطنية.
بريماكوف ( ب. ت) حرب كان يمكن تجنبها، المركز الثقافي العربي
سيمورهير، خيار شمشون، دار راندوم هاوس، نيويورك، 1991، ص:9-10) .
نشرة الانتفاضة، التجمع العراقي الموحد، إصدار خاص، 1999.
كاتلين كريستيسون (1999) تصورات عن فلسطين، مطبعة جامعة كاليفورنيا، أمريكا.
تشرين الثاني 2000