1. لم يعد ما يجري في العراق خافيا على الشعب بكل الفئات والمستويات الثقافية والاجتماعية، ولم تعد الأسباب مجهولة أيضا لمستوى اتفقت فيه الأغلبيـة على أن دمار الحاضر، وأخطار المستقبل تعود إلى إدارة صدام للدولة بأساليب فردية تسلطية، وتعامل خطأ مع كل المتغيرات الداخلية والخارجية ذات الصلة بأمن المواطنين واستقرارهم وحقوقهم الإنسانية.
فعلى مستوى الداخل تحولت الدولة في العقدين الأخيرين إلى دولة الرجل الواحد أو الرجل الدولة كصيغة حكم فردية رافضة لأي اتجاه سياسي أو فكري معارض، ساعية لفرض الهيمنة الدكتاتورية المطلقة على المجتمع العراقي كله ومنع التعددية، وتقييد الحريات ومن ثم توحيد الصفوف وراء قيادة الفرد التي أخذت على عاتقها مراقبته "المجتمع" وقهره بأدواتها الأمنية والحزبية ذات الكفاءة، والخبرة عاليتي المستوى.
وهذه اتجاهات يتطلب تنفيذها بطبيعة الحال، اللجوء إلى استعمال العنف والترهيب والعزل المستمر للعناصر التي يؤشر عليها عدم الرضا أو التذمر من أي نوع كان، بغية المحافظة على وحدة الدولة والحزب، وقوة دفعها في إطار ما يسمى بالتوظيف الشامل للقوى المتاحة لإدماج المجتمع بمفاصل الدولة أو بمعنى آخر توحيد المجتمع العراقي بدولة الرجل الواحد، لتسهيل عملية تعبئة الجماهير تأيدا له، ودفعهم لتنفيذ غاياته، وقد تم ذلك بنسب إنجاز ليست قليلة بعد أن تمكن بإصراره المعروف من مزج الأيديولوجية الرسمية للدولة، وتوجهات الحزب القائـد ذي الانتشـار الجماهيري الواسع في إطار واحد:
بأدوات تنفيذ قمعية.
ورقابة تتبع صارمة.
في ظل نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي مركزي يحركه الأقارب لخدمة هذه التوجهات.
ومن هنا يمكن القول إن إدارة الحكم الحالية في العراق قد تقيدّتْ بين ثناياها حرية التعبير، وشـّوهتْ داخل أروقتها طبيعة المعتقدات، لأن الحاكم فيها بقيّ مشغولاً بتوجهاته الذاتية، وبكرسي الحكم، وكيفية المحافظة على ديمومة الجلوس.
مشاغلٌ سحبته إلى الإيغال بالديكتاتورية، وأستخدام القمع أسلوبا للترويض والسيطرة، ليس على معارضي الحزب وغير المنتمين إليه فحسب، بل ومده تدريجيا إلى أعضاءه القياديين، عندما أعطى البعض منهم لنفسه حق النقد، والتقويم لما بعد الخطوط المرسومة.
وبالنتيجة خضع عامة الناس إلى الحزب الحاكم والدولة من خلال التماثل مع شخصية القائد المعبر عن كل الدولة، فأصبح وضعهم حزبيين كانوا أم مستقلين، وضعـا قلقا يحركه الشعور بالخوف من القمع والقتل، والتغييب إلى مستوى أفقد الكثير ذاتيتهم ليس بسبب استخـدام القمـع والتهديد فقـط، بل وبتطبيق تقنيات القهـر الفكـري الحديثة "وسائل الأعلام المركزية" لإرغام الفرد المتلقي قبول الكذب حقيقة تتفق واتجاهات الدولـة بشكل مستمر لتشويه الذاكرة العراقية أي تحطيم معتقدات الماضي، والإخل بقيم الحاضر، ومن ثم تحويل الجمع إلى أداة من أدوات العمل السياسي غير الواعية.
وبالمحصلة النهائية يمكن الإشارة إلى أن أساليب القيادة هذه قد أسهمت في تدمير ما تبقى من إنسانية الفرد العراقي ذي الصلة بالذاكرة حتى أصبحت "أي الذاكرة" سهلة التشكيل تماما، ومسيطر عليها كليا، ومملوكة للدولة فعليا، وبات الجميع تحت رحمة الحاكم غير المضمونة.
أما على المستوى الخارجي فقد وضعت نفسها طرفا رئيسا في الصراعات الإقليمية بالمنطقة تبعا لقناعات ذات أبعاد محدودة، وغايات فردية غير منطقية، ووفقا لذلك أصبحت شرارة قدح جاهزة لتفجير بؤر تلك الصراعات المرتبطة بمصالح الدول العظمى، فخسرت جولتها الأولى مع إيران "تعادل الخسارة للطرفين" تحسس المواطن العراقي نتائجها الاقتصادية والبشرية والاجتماعية، لكنها لم تردعها أو تجبرها على الابتعاد عن المجازفة ولعب الأوراق غير المضمونة، بل دفعتها إلى محاولة تكـّييف نتيجة الحرب مع إيران "وبمساعدة الدول الكبرى" لتعطي تصورا وهميا بالانتصار، صدقته هي أولا بشكل أكسبها زخما جديدا لتكرار التجربة، وتذوق حلاوته الإنفعالية، فكان أجتياح الكويت، المشكلة الأكثر تأثيرا على المواطن العراقي أو هي الصدمة التي أعادت إلى الأذهان العديد من المعطيات التي حاولت السلطة محّوها عبر سنوات حكمها طويلة الأمد، ذلك الأجتياح الذي أوجد مشكلة حصار بات استمراره ثمنا يدفعه العراقيون من حريتهم واستقرارهم، وفاتورة أرهقت كاهلهم حتى وضّعوا تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية التي غيرت كثيرا من معتقداتهم السياسية والاجتماعية، وكذلك من رغبتهم في التعبير عنها في السر أو في العلن.
2. إن استقراء أخطاء قيادة الدولة على المستويين الداخلي والخارجي، وما تمخض عنهما من تخريب إجتماعي، وتحجيم للدور السياسي، وتدمير للقدرات العلمية، وهدم للقاعدة الصناعية، وتبديد للثروة القومية، جميعها متغيرات يمكن الاعتماد عليها في مناقشة مستقبل القيادة أو الحكم الذي أصبح هاجسا لعموم العراقيين، والعرب والمنصفين من دول العالم الأخرى.
وإذا ما أخذنا أكبر أخطائها جسامة "حرب الخليج الثانية" مجالا لمناقشة مستقبلها نرى أن نتائجها قد صيغت بشكل حتــّم استمرارها "نفس القيادة" في إدارة العراق كخيار مؤقت مضمون وضعته أطراف النزاع بالحرب، وساعدت على تحقيقه لأسباب يتعلق معظمها برغبتها تحميل تلك القيادة عبئ الخسائر وتبعاتها التي قد لا يجرأ أحد غيرها على قبول تحملها.
هذا من جانب ومن جانب آخر فان وضع الدولة الضعيف غير المستقر بعد عام 1991 الذي كـّونه الخصم "الدول الكبرى صاحبة النفوذ" ورغبة النظام القوية في المحافظة على البقاء مع عـدم قدرته على المناورة، أعطى تلك الدول فرصة جيدة لتهيئة المجتمع العراقي على قبول الأمر الواقع، وأية إضافات لاحقة تبقيه خارج حلبة الصراع الدامي في المنطقة. ومما زاد الحالة سوءً، طبيعة الاستجابة التي أبدتها القيادة لهذا الوضع الشائك، والتي تتمحور حول الهرولة إلى الأمام بخطوات تعزيز سلطة الفرد الواحد "القائد" وإبقائه على مستوى الداخل بديلا وحيدا للتعامل مع كل الأزمات الناجمة عن تناقضات الواقع، ورمزا وهميا لوحدة العراقيين ومستقبلهم.
أو بمعنى آخر أوحت القيادة من خلال استجابتها التي أعقبت الحرب على أن غيابها يعني الخراب والفرقة أو التقسيم، وهذا التصور عززه "القائد" عمليا عندما أوجد مسافات قيميّـة بينه وبين من يليه في سلم المسئوليات من حيث الإمكانات والقدرات، بهدف المحافظة على مكانة التفـرّد في أذهان العراقيين، وكأنه بأعماله هذه قد تعمّـد القول أن لا بديل عنه في قيادة العراق بظروفه الصعبة، وإن الذين يأتون من بعده في مفاصل القرار غير مناسبين لقيادة العراق المعروف بصعوبة قيادته.
وهذه رسالة بعض معانيها موجهة إلى الخارج، دعّـمها باندفاعه الشديد في ذات الوقت إلى طرح وجوده تعبيرا عن مصالح الأقوياء، ورمزا لتواجدهم في المنطقة بعد أن حقق لهم كل ما يصبون إليه من تواجد فعلي مبرر في أكثـر المناطق حساسية، وتبديد مقنـّن لفائض الأموال العربية، وتهيئة الفرص الجيدة لفرض الحلول وإعادة رسم الخرائط باتجاه المزيد من التجزئة وتفتيت المصالح القومية، وغيرها من أهداف ما كانت تتحقق أبداً في غياب هذه القيادة، وشخص رئيسها الحالي على وجه الخصوص.
إن هذا التصور البسيط لواقع إدارة الدولة الحالي في العراق، وموقف الدول الكبرى الداعم لوجودها أو احتوائها في الوقت الحاضر، أمر لا ينبغي أن يؤدي إلى اليأس أو التشاؤم لأن البقاء والتعامل في منطقتنا، وغيرها مرهون في معظمه بالمصالح والغايات، هذا وإذا ما عدنا إلى مناقشة بعضها الذي ذكر أعلاه نقاشا منطقيا، وافترضنا أن خطأ إدارة الدولة العراقية كان مطلوبا لتحقيقها كما يرى الكثير من المحللين، وإن الإنفعال السريع للحاكم كان مرغوبا لأستخدامه أداة بطريقة الإيحاء عن بعد كما يعتقد العديد من النفسانيين، منها نصل إلى أستنتاج أن بقاء الإدارة الحالية، وأحتوائها ضعيفة لم يعد يؤمن المصالح التي تأمن معظمها، وهو أستنتاج تدعمه المعطيات الآتية:
أ. إذا كان التواجد الأجنبي في منطقتنا الحساسة غاية مهمة، فان نسبة كبيرة منه قد تحقق بعد أن أصبح له مؤيدون، ودعاة مدافعون، ومعارضون لا تأثير لهم في الوجدان والقرار العربي، ولا حاجة لوسيط أو أداة تمهد لحصوله.
ب. وإذا كان استنزاف الاقتصاد العربي أو الإقلال من قدرتـه على التأثير عالميا هو من بين الغايات الموضوعة، فان اقتصاديات الدول العربية الغنية أي النفطية قد تأثرت سلبا بعد حرب الخليج الثانية، وأصبحت تعاني عجزا كبيرا في ميزانياتها لمستوى لم يعد فيه النفط بأسعاره المتدنية قادرا على التعويض في السنوات القليلة المقبلة، ولم تعد فيه الحاجة قائمة إلى من يثير التوتر لتكبيده المزيد من الخسائر التي قد تؤدي جسامتها إلى تكوين مشاعر بالضد لدى الحكام والمواطنين في المنطقة.
ج. وإذا كان الإخلال بميزان القوى بين العرب، وأعدائهم إحدى المصالح الاستراتيجية لدول كبرى، فإن الإسرائيليين وحدهم قد حققوا تفوقا علميا وتقنيا وعسكريا لا يقوى العرب على تقويمه أو تعديله في المنظور القريب، وميزان القوى هذا مستمرة كفته لصالح أسرائيل في توجه للأستفادة من الخلل فيه لفرض شروط سلام غير مقبول في مجالها بوجود من يثير المتاعب ولو من بعيد.
د. وإذا كنا نحن العراقيين باتجاهاتنا للتطور غاية من بين الغايات فان شدة الضغوط المسلطة علينا قد دفعت كثيرا منا إلى الانسحاب من الساحة العلمية، وأبعدتنا بطبيعة الحال من التفكير بغير هموم العيش، ومساعي الاستمرار على قيد الحياة التي تعيق تطورنا، وتخرجنا من التوازن العلمي المطلوب مع الغير، ولا نجتاج إلى مزيد من الصدمات والضغوط لإخراجنا من الساحة.
هذا وإذا ما وضعنا تلك المصالح والغايات التي تم تأمين معظمها كما أسلفنا مع جهود المستفيدين منها "الدول الكبرى" في تحجيم قيادة العراق، وتقييد هامش حركتها وتشويه صورتها بالشكل الذي لم يعد فيه التعامل معها مقبولا من المجتمعات الدولية، وتجريدها من قدرات الدفاع عن نفسها إزاء الهجمات المحتملة.
مع الكم الهائل من المعاناة المترسبة في عقول العراقيين، والتي قد تدفع يوما وبحكم التشبع إلى القيام بفعل لا تتسق نتائجه ورغبة أولئك الكبار.
منها نصل إلى أستنتاج معقول قوامه أن المستقبل غير مضمون للسلطة الحاكمة في العراق حاليا، وإن إحتمالات تغييرها من قبل القوى الفاعلة في الساحة الدولية تفوق إحتمالات إبقائها ضعيفة واهنة على وفق فلسفة الإحتواء.
3. إن التفسيرات سالفة الذكر لواقع العراق، والرؤية الأجنبية لتشكيل هذا الواقع، وكذلك منهج القيادة الحالية في تعاملها معه أمور يفهم منها أن التغيير مسألة واردة بعد أن تحققت نسب ليست قليلة من المصالح، وباتت الظروف وتطورات معالم التحلل في الضوابط الاجتماعيـة والمعايير الثقافية غير مضمون السيطرة عليها.
لكننا وفي موضوع كهذا لم نركز على تحديد موعد التغيير المحتوم أو طريقة حدوثه وسنتناول بدلا عنه ما يمكن أن ينتج عن الغياب المفاجئ أو السريع لسلطة الدولة "الحاكم" من فراغ سلطوي أمني بعد أن شكل صدام لنفسه وضعا خاصا تمثل في امتلاكه كل مقاليد السلطة، وصلاحيات التعامل معها مدعوما بخبرات القوى الضابطة، وإمكاناتها التي سخرت لتعزيز وجوده على قمتها مثل الجيش، والحرس الجمهوري، والحرس الخاص، والأمن الخاص، والمخابرات ، والأمن العامة، والاستخبارات العسكرية، والجهاز الحزبي التي أرتبطت إدارتها جميعا به شخصيا عن طريق السكرتير، وكذلك سعيه الجاد إلى إبعاد كل الأشخاص القياديين القادرين على تقديم العون في الوقت المناسب، واستبدالهم بآخرين لا يمتلكون من الشجاعة اللازمة ما يساعدهم على تقديم المشورة المناسبة له في إستمرار السيطرة على البلاد.
وبعمله المقصود هذا أوجد مسافة أو فراغا بينه وبين أقرب القياديين منه لا يمكن إملاؤه في حالة غيابه المفاجئ أو حتى التفكير بإملائه وهو باقي على قيد الحياة، وهذا أمر قد يثير الفوضى والاضطراب عند حدوثه "فعل الغياب" إذا ما أضيفت إليه عوامل أخرى مثل:
أ. مستوى الانضباط القسري الهش لغالبية العراقيين، وكثرة التناقضات السلبيه، وغزارة المشاعر العدائية العالقة في الذاكرة خلال سنوات الحكم طويلة الأمد.
ب. الرغبة الملحة لإشباع كثير من الحاجات الإنسانية الضرورية التي طال انتظارها.
وهذه متغيرات لا يمكن النظر إليها بمعزل عن مشاعر الولاء التي تغيرت بعض جوانبها سلبا بجهود الحاكم، واسلوب إدارته الذي أدى إلى تجريد الفرد العراقي من معنى وجوده بين الآخرين، كقيمة وطنية عليا دفعته إلى البحث أولا عن إشباع مصالحه الذاتية الأنانية "قيـمة أساسية" دون الأخـذ بـالاعتبـار حقوق الآخرين ومصالحهم من حوله "قيمة وطنية".
وهي عوامل يؤدي وجودها في حالة الغياب السريع أو المفاجئ للسلطة إلى الإحساس بالتحرر، وتخطي حاجز الخوف بمستوى يكفي لتفجير الأنانية "الذاتية" ودفع الكثيرين باتجاه الإشباع السريع لحاجات منعوا من إشباعها في السابق، وهو اندفاع يتعارض عند الشروع به مع رغبات الآخرين وأنانيتهم ويشعرهم جميعا أن أية سلطة بديلة قد تشكل مصدر إعاقة لا يمكن تحمله، فيتجهوا عندها إلى تدميرها بشكل عنيف، وقد ينقسموا في داخلهم بين مفهومهم عن أنفسهم "أنانيتهم" التي تنطلق دون قيود، وبين احتمالات الإعاقة والإحساس بالعزلة الناجمة عن ممارستها "الأنانية".
4. إن تزامن هذا الشعور المحتمل بالاستلاب القيمي، وتفاعله مع توجهات التحرر من القيود بغياب السلطة القوية الضابطة قد تسهل إنطلاق بعض الإنفعالات السلبية المكبوتة بينها العدوان على رموز الدولة القديمة والحزب التي يمكن أن تمتد سعة "تعميم" حدود الأخذ بالثأر والانتقام، وزيادة المنفعة الخاصة، والأستحواذ، ومد النفوذ التي تجد الطريق سهلا في مرحلة الفراغ السلطوي، وقد تزداد المشكلة تعقيداً عندما يتلمس المنفعلون في هذه الفترة الحرجة:
أ. تنحي منتسبي الأجهزة الأمنية عن مهامهم طواعية بغيابهم عن دوائرهم نتيجة الخوف الذي سيعقب عملية الغياب المفاجئ أو قسرا بأوامر السلطة الجديدة التي قد تحملهم مسؤولية الأعمال الخطأ، والتجاوز التي حصلت إبان فترة حكم الحزب وصدام وتسعى لمعاقبتهم.
ب. الفراغ السلطوي الأمني الذي يحصل عادة فيما إذا سعت السلطة الجديدة إلى إجراءات تغيير واسعة في هيكلية الأجهزة الأمنية التي كانت موجودة لما قبل الغياب.
ج. نشوة التخلص من الضغوط، ومباهج الصعود الى السلطة التي يمكن أن تدفع البعض من السياسيين المسيطرين على الحكم ما بعد الغياب الى الاعتقاد "بسبب عقد التعامل السابق" بعدم الحاجة الى أجهزة أمنية قوية، وما يسببه من تعطيل لفاعليتها فترة زمنية قد لا تكون قصيرة.
د. مصاعب الإنصياع الطوعي إلى السلطة الجديدة "فراغ أمني" بعد تجربة السلطة القديمة، لأن:
أولا. الديمقراطية التي يؤسس العراقيون على وجودها الحتمي كأحد شروط الحكم ما بعد صدام مبهمة عند غالبية المؤثرين على حركة الشارع لأنهم لم يخبروها من قبل، ولم ينضجوا للمارستها وقبول نتائجها.
ثانيا. إن الأشخاص، والقادة الجدد الذين سيطبقونها أسلوبا في إدارة الدولة ما بعد الغياب لا يمتلكون عند الجمهور المؤثر نفس التقييم النفسي الخاص بجوانب القوة والشدة والسيطرة التي امتلكتها إدارة صدام عبر عشرات السنيين من أعمـال الإدارة التي تحتم الضبط والإنصياع.
إن الغياب السريع للسلطة الضابطة، والتحرر من قيود الوعي، ورغبات التعويض عوامل "ستكون موجودة" ومعالم الجهل، وتدني مستويات الوطنية، وقلة الشعور بالمسؤولية "الموجودة" ستتفاعل في هذه المرحلة مع عوامل أخرى في البيئة المحيطة مكونة قدرا من الفراغ السلطوي الأمني بمستوى يسمح إنفعاليا بوجود تفسيرات ذرائعية لتبرير السلوك الخطأ، والتجاوز، إذ يُفسر على سبيل المثال إبان الفراغ عدم أمتلاك السلطة الجديدة أذرع أمن قوية ضعف، يحسبه المنفعلون فرصة سانحة لإشباع الجوع النفسي المتراكم باية طريقة متاحة، مما يزيد من أحتمالات الفوضى.
وقد يفسر أي رد فعل شديد من قبل السلطة الجديدة لمحاسبة التجاوز في ظروف الفراغ إعاقة عمدية للحرمان من الإشباع الممكن، مما يزيد مشاعر العدوان بالضد، ويفسح المجال لمزيد من الإضطراب.
إن الغياب السريع أو المفاجئ للسلطة مع تلمس وتفاعل المتغيرات المذكورة في (4) أعلاه سيزيد من شدة مشاعر الإستلاب القيمي، وسيقوي توجهات التعويض النفسي لنواقص الماضي، التي قد لا يقتصر وجودها في حال أمتداد فترة الغياب على أفراد هنا أو هناك، أو على مجموعة محددة في هذه المدينة أو تلك أو على شريحة من هذا الوسط أو ذاك، لأنها في المجتمعات المتخلفة وخلال مراحل الإنتقال يمكن أن تتسع رقعة أنتشارها عن طريق العدوى والتقليد لتصل إلى الجماعات المتكتلة مثل العشيرة أو الطائفة التي اكتسبت حقوقا في سلطة الحاكم الغائب، حتى تجد نفسها منساقة لاستثمار الفرصة بشكل منظم، وتهديم ما تبقى من المؤسسات عن طريق العنف الذي تمتلك أدواته "السلاح"، واتجاهها إلى العنف هذا سيمكنها بطبيعة الحال من توسيع هوة الفراغ السلطوي أملاً في المحافظة على المكاسب المتحققة في السابق أو زيادتها عندما ترى الفرصة قد باتت مواتية في الحاضر.
هذا وإذا ما أضفنا إلى هذا التراكم قيم الثأر المتأصلة في نفوس العراقيين وأخذنا بالاعتبار كثرة المتضررين منهم، وكذلك القائمين على الضرر من منتسبي الأجهزة الأمنية وبعض أعضاء المنظمات الحزبية الذين سيصبحون ومؤسساتهم أهدافا سهلة للأخذ بالثأر المؤجل منذ سنوات ليست قليلة، بقوة دفع تثير لديهم أستجابات الدفاع الشرعي عن الذات، لأن الثأر ينتج ثأرا مقابلا ستكون بموجبه تلك المجموعات أو العشائر والأحزاب، ورموز السلطة الجديدة أهدافاً لعنف مجموعات أخرى تعتقد أن عملها شرعي وله ما يبرره قيميا.
وهكـذا فيما إذا أمتد الغياب النفسي للسلطة الضابطة قد يستمر العنف وتعم الفوضى في دائرة مغلقة من الثأر، وإشباع الحاجات الذاتية الملحة، وتهديدات المستقبل المجهول، ولحين ظهور متغيرات جديدة تساعد على الكف، وإعادة التوازن إلى المجتمع المضطرب عندها نكتشف أننا قد دفعنا ثمنا مضافا إلى ما دفعناه طيلة حكم صدام للبلاد.
5. مناقشتنا سالفة الذكر لماهية الفراغ السلطوي وأسباب حدوثه، وىثاره المحتملة من جهة، وطبيعة الإدارة العراقية والظروف الدولية المحيطة بها من جهة أخرى أوصلتنا إلى أستنتاج أن الغياب المفاجئ لرئيس الدولة العراقية "صدام" وسلطته الضابطة أمر غير مستبعد، وإن غيابهما دون تحسب مسبق سيترك فراغا سلطويا أمنيا، قد يتسبب في إرتكاب أعمال عنف وعدوان، وخسائر بالأموال والأرواح، وتدمير البنى التحتية، وتأخير النضـج الحضاري، تضاف إلى جملة الخسائر التي عانى منها المجتمع طيلة حكم صدام.
لكن التحسب المفترض أن يتم أو التعامل المفترض أن يكون مع هذا الموضوع المبني أساسا على التحليل والتوقع ليس بالأمر اليسير في تحديد النتائج، ووضع المقترحات كما هو حال البحوث الأخرى التي تستند على الوقائع والبيانات، والإحصاء، ومع ذلك يمكن النظر إلى الفرص المتاحة للتعامل المقبول منطقيا بضوء الأستنتاجات من زاوية التوجهات الثلاثة الآتية:
أ. الحيلولة دون حدوث الفراغ السلطوي
أي التدخل لمنع حدوث أي عمل يفضي إلى تقويض سلطة الحاكم وإحداث الفراغ، وهذا توجه لا نعتقد أن لدى العراقيين المنتمظمين في صفوف المعارضة، وغير المنتظمين في الوقت الحاضر، قدرة للتدخل لمنع الحدوث، وكذلك الحال بالنسبة إلى الحكومة وذلك بسبب:
أولا. تنامي الأتجاه الدولي "الأمريكي" للتعامل مع موضوع العراق، بالأنتقال من الأحتواء إلى التدخل المباشر للإزاحة وفرض العقاب.
ثانيا. حصر الحكومة العراقية الحالية "صدام" في زاوية العزلة التي تحول دون حصولها على فرص الإصلاح، واستمرار البقاء.
ثالثا. حالة الإرهاق، واليأس المتأتية من معاناة غالبية أبناء المجتمع العراقي في وضعهم المعاشي الصعب، والإجتماعي المتردي، التي هيأتهم إلى قبول مبدأ الخلاص "التغيير" بأي ثمن كان.
ب. التهيؤ المسبق لإملاء الفراغ الأمني
أي الأعتراف الواعي من قبل الحكومة، والمعارضة بحتمية حدوث الفراغ السلطوي، والتهيؤ المسبق لخطوات ملأه من الآن، وهذا توجه مثير لأن:
أولا. المعارضة العراقية بوضعها الحالي وإن أعترفت بإحتمالات حصول الفراغ، فإنها لاتملك الوسائل الأمنية والعسكرية الكفيلة بإملاءه، وإن أمتلكت بعض فصائلها قوات مقاتلة مثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والحزبيين الكردين، وأقل منهما الشيوعيون فإن زجها في الشارع العراقي المنفعل في ظروف الغياب السريع سيسبب في ردود فعل تنتج بطبيعتها عنف ومزيد من الإضطراب.
ثانيا. الحكومة العراقية من طرفها لا تجرؤ على الإعتراف ومناقشة مثل هكذا مواضيع لحساسية علاقتها بالرئيس وحكمه للبلاد.
ثالثا. الجيش العراقي الذي شارك بكفاءة في ملأ الفراغ الأمني السلطوي أكثر من مرة منذ تأسيسه حتى السني الأخيرة، ، والذي تتمتع بعض وحداته بسمعة جيدة نسبيا، وتمتلك إدارته أسلوبا هرميا قادرا على إصدار الأوامر، وتنفيذها بسرعة تلائم التطورات المحتملة، وتمثيل منتسبوه "الضباط بالرتب الصغيرة، والمراتب" غالبية شرائح المجتمع وطوائفه، وبما يؤهله منطقيا لملأ الفراغ، لا يمكنه كما حال الحكومة من التقرب من الموضوع.
هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن مناقشة التهيؤ المسبق لملأ الفراغ يسحبنا حتما للتطرق إلى السيناريوهات المحتملة لإحداث الفراغ، وفي مجالها إذا ما أستبعدنا الإنقلاب العسكري، كوسيلة للتغيير وملأ الفراغ لأعتبارات الضعف والخوف، وكفاءة الأجهزة الأمنية التي تحول دون حدوثه.
وكذلك تمرد القيادات العسكرية الوسطى لشحة الوقت المتاح، وصعوبات التنظيم، وشدة الرقابة، وعدم رغبة القوى الدولية الفاعلة في أعطاء العسكر العراقي فرصة التقوية والوثوق بالنفس من جديد، وتوجس المعارضة العراقية وإعتقادها أنهم محسوبون على صدام، وتحميل بعضهم مسؤولية إرتكاب العديد من الأخطاء.
يبقى من الإحتمالات التي تحدث قدرا من الفراغ ما يتعلق بالموت الطبيعي لرأس النظام أو إغتياله عشوائيا، وفي حالته ستكون فترة الفراغ السلطوي قليلة وربما معدومة خاصة في حالة الموت الطبيعي، وستكون العائلة ومن بعدها قيادة الحزب التي ستخضع لها تبعا للخطط الأمنية الموجودة هم الأوفر حضا لملأ الفراغ، والأستمرار على نفس النهج بتغييرات شكلية.
أما الجيش التقليدي فستكون فرصته في الإنفراد بملأ الفراغ في هذه الحالة "الموت، والإغتيال" شبه معدومة لأن قيادته هرميا تنتهي في القيادة القطرية للحزب، وأي تحرك خارج سياقاتها سيجد القادة المتحركون أنهم بمواجهة قادة جيوش أخرى وأجهزة أخرى لا تعطيهم المجال للتفوق وملأ الفراغ، وإن تفوقوا صدفة قد يجدون أنفسهم بمواجهة جمهور غاضب في الوسط والجنوب لا يستطيعون إقناعه بشرعية وجودهم عاملا لملأ الفراغ وغالبيتهم وجدوا في مراكزهم القيادية على أسس طائفية، ومناطقية وحزبية.
على هذا الأساس يبقى الأحتمال الأكثر رجحانا للإزاحة، والتنحية، والتغيير ذو صلة بأستخدام القوة الخارجية أي عن طريق القتال، وفي حالتها إذا لم يكن للعراقيين "المعارضة" دور مؤثر فيه سيخضع كل شيئ لحسابات ربح الحرب وخسارتها، وستتحدد طبيعة التعامل مع الفراغ من الطرف الخارجي "الرابح في الحرب" وسينحسر أو ينتهي دور الجيش والأجهزة الأمنية لأنهما سيكونان طرفا إلى جانب الحكومة، وبالتالي خصما في ساحة القتال، لا تسمح قوانين الربح فيها بإعطاء فرصة لأي منهما في ملأ الفراغ.
ج. العمل على تقليل آثار الفراغ
إذا لم يكن مسموحا من طرف الحكومة التكلم عن موضوع الفراغ، ولم يكن متاحا لها والمعارضة منع حدوثه، وإذا لم تمتلك المعارضة وسائل التهيؤ المسبق لإملاءه، لم يتبق من خيار سوى التوجه للتقليل من الآثار المحتملة لحدوثه، وفي ظروف العمل السياسي الحالي يتأسس هذا التوجه على محورين:
أولا. المحور السياسي الذي يضع في الحسبان توحيد جهد المعارضة المتاح لتشكيل حكومة منفى تحصل على أعتراف ودعم دولي، تبدأ عملها من الآن بغية الحصول على حيز قبول في العقل العراقي يعينها على تمهيد تنفيذ أوامرها وتوجيهاتها في القيادة والسيطرة، إبان مرحلة الغياب، ويكسبها في نفس الوقت الخبرة اللازمة للتعامل مع الأزمة وتطوراتها بمنطق الدولة، وليس بأسلوب المعارضة التي أعتادتها في سلم حياتها النضالي.
ثانيا. المحور النفسي الإعلامي، الذي ينصب الجهد فيه على المثقفين والمتخصصين ليتحملوا المسؤولية التاريخية في التنبيه إلى فداحة الخسارة التي تترتب على حدوث الفراغ السلطوي، والتوعية بسبل التقليل منها، وطرح الأفكار العملية المناسبة في مجالها، لأنهم القادرون علميا على التعامل مع مفرداتها المبهمة، وتفهم الرغبات البدائية للأفراد والجماعات عند ظهورها خلال أزمة الغياب السريع للسلطة، ولأنهم يمثلون بجهودهم العلمية إتجاهات البحث عن الوجود المرغوب من الجماهير، والتي من خلالها سيتمكنوا أكثر من غيرهم في التخاطب والتحاور مع أفراد المجتمع في حالتهم الإنفعالية المحتملة بوجود الغياب.
إن جهد المثقفين والأدباء والمختصين المطلوب للتوعية، والتحسب، والتنويه لا ينبغي أن يتم عفويا، وإنما وفق قواعد الطرح المؤسسي القادر على الدفع بخلق قاعدة تقبل جماهيري لما يأتي من جهة المعارضة وأدواتها في التواصل والأتصال، وتسويق للفكر السياسي المعارض القادر على تقديم قادة أكفاء، مقبولين جماهيريا للتعامل مع أزمة الفراغ في الوقت المناسب، لأن ضغط الفوضى عند حدوثها عادة ما يفتح الطريق أمام الجمهور ليفتشوا عن تنظيمات وأفكار تقلل من هامش الغموض لديهم، عندها سيكون تأثير جهود التوعية والتنبيه بقيادة المثقفين على الأفراد لا يتحدد بأتجاه الجذب إلى حالة التهدءة، بل وبتشكيل سلوك التعاطف الجماهيري معها، وبما يفسح المجال أمامها لتغيير الاتجاهات غير التوافقية، وتصريف الإنفعالات غير السوية، والتمهيد لقبول أفكار جديدة، بدلاً عن الأفكار القديمة التي تعود إلى مرحلة الاضطراب والفوضى.
هذا ويمكن أن تلعب جهود التوعية والتنبيه في الاتجاه نفسه دوراً آخر لا يقل أهمية عن دورها المذكور أعلاه عند انتمائها إلى الفصائل المعارضة العراقية والسعي لتوحيد اتجاهاتها الفكرية المتناثرة، والدعوة إلى تجاوزها الذاتية والمصالح الشخصية، وتغليب مصلحة العراق الوطنية.
إن جهود التوعية المعول عليها تكون أكثر فاعلية لو تم تقديمها من خلال وسائل إعلام مركزية، قوية، ومؤثرة، كأن تكون فضائية معارضة، وصحيفة رصينة تخطط لتكوين جمهور ينسجم معها في الأفكار، ويعود إليها في الأزمات.
6. في زمن الأزمات ينتج المجتمع رموزا لملأ الفراغ أشخاصا كانوا أو تنظيمات قادرة أن تحل محل السلطة في حال غيابها، وتمتلك من المقومات ما يدفع الجمور إلى الالتفاف حولها، ومن الصفات ما يساعد على توحيد كل الاتجاهات المتناقضة في ساحة الصراع ضمن الأهداف الوطنية المطروحة، لكن المجتمع العراقي الذي عاش مرهوبا لنصف قرن من الزمان، والذي لم يستطع خلال أزمته الحالية من أنتاج الرمز سوف لن يكون قادرا على أنتاجه في أزمة الفراغ السلطوي.
كما إن صدام الذي جسد الرمز في شخصه حال دون إحتمالات وجوده حتى من بين الحزبيين الوطنيين، بعد ما أوجد مسافة نفسية بعيدة بينه وبين الذي يليه في السلم القيادي الحزبي والإداري.
كما إن المعارضة العراقية بوضعها الحالي غير قادرة على تقديم الرمز، لأن فاعليتها على مستوى الشارع الداخلي لم تصل إلى مستوى التأثير الحاسم، ومقدار نضجها السياسي والفكري لم يتقدم بما يكفي لأنتاج الرمز، وذاتيتها المفرطة لم تؤهلها لأنتاجه، وهو بوجه العموم أمر سيزيد من الخسارة التي ستترتب على وجود الفراغ، وعلى تعقيدات التعامل معه.
7. الفراغ في إدارة الدولة أو الفراغ السلطوي مسألة دارجة، ومنهج لم يغب عن تصور الكثير من حكام العالم الثالث على وجـه الخصـوص، إذ يعي معظمهم احتمالات حدوثه ويعرفون جيدا آلية الحصول، والآثار التدميرية المترتبة عليه، إلا أنهم وبنفس الوقت يتصرفون بما يعزز وجوده كتحصيل حاصل عند غيابهم المرتقب، وتصرفهم هذا يمكن أن يكون مقصودا في كثير من الأحيان، غايته إشعار مواطنيهم وهم غارقين في هموم العيش أن السعي لتغيرهم كسلطة قوية ضابطة، يعني اضطراب ستطالهم آثاره التدميرية، وهو تصرف يحمل في طياته أيضا رسالة مغلفة لأصحاب النفوذ في مناطقهم توحي أن التغيير قد يخلق وضعا من الفوضى وعدم الاستقرار، يكفي للتأثير سلبا على مصالحهم.
وقد يكون مثل هذا التصرف عفويا يعبر عن طبيعة أولئك الحكام غير السوية، إذ يسعى من يعاني منهم اضطهاد العظمة أن يبرز شخصه باستمرار من خلال الوجود الفعلي للضعفاء من حوله.
8. وعلى وجه العموم فان الأحتمالات سالفة الذكر تؤكدان أن الغياب السريع للسلطة في المجتمعات النامية يؤدي في الغالب إلى انهيار المجتمع، وإذا ما عدنا إلى موضوعنا المتعلق بالعراق، فإننا نعتقد أن مستويات التدمير في حالة حصول الفراغ ستكون أكثر حدة عما كانت عليه عام 1991 أبان الانتفاضـة الشعبيـة، نظـراً لكـم التراكمات الضاغطة وكثرة التناقضات السلبية في التركيبة الإجتماعية الحالية التي قد تمهد لإنهيار تتعدد فيه مجالات الصراع:
بين المجموعات البديلة للسلطة الغائبة، وبين المجموعات الساعية للسيطرة على السلطة الجديدة.
بين الأفراد والجماعات المنظمة، وبين الأخرى غير المنظمة.
بين الطوائف والأقوام.
بين المدافعين عن القانون، وبين الراغبين في خرقه.
بين الساعين إلى الثأر والإنتقام، وبين المدافعين عن أنفسهم ضد حصولهما.
بين الراغبين في مد النفوذ، وبين العاملين على المحافظة على الوجود.
............ إلخ من مجالات صراع في حال تحولها إلى سلوك سيكون في معظمهه عنيفا وربما دمويا في بعض الأحيان.
9. إن تأثيرات الفراغ السلبية في حالة حصوله ستكون قاسية على العراقيين لأن العديد منهم سيحاول أن يطرح نفسه بديلا عن مسؤولين في الدولة والحزب لزيادة كم التحصيل، وهو طموح يمكن تلمسه في سلوك كثير من العراقيين إبان الأزمات، وبين فصائل المعارضة أيضا حتى قبل حدوث الفراغ، وهذا اتجاه جاء نتيجة الشعور بالحرمان الذي طبع الشخصية العراقية المكبوتة لفترة طويلة من الزمن.
10. إن أي فراغ سلطوي يحصل في العراق سيكون في واقع الحال كارثة لا يمكن تفاديها أو الإقلال من آثارها إلا من خلال إدراك عموم العراقيين لاحتمالات حدوثها أولاً ومن ثم تبصر آثارها المدمرة خطوة ثانية يصاحبها قيام السياسيين المعارضين الوطنيين، والمثقفين بمساعي حثيثة لتعزيز الإيمان بأن مصلحة الجميع أبقى من الأفراد وذاتيتهم، ووحدة العراق أكثر فائدة من التقسيم العرقي والطائفي، والتسامح الإنساني أقرب للقيم السماوية من الحقد الانفعالي، والتطبيق الشامل للديمقراطية أكثر جدوى من الحكم الفردي الاستبدادي، وهي مساعي فكرية سلوكية يمكن أن تسهل عملية الأنتقال إلى مرحلة ما بعد التغيير بأقل ما يمكن من الخسائر، كان التنبيه لها في هذه الورقة هو الغاية الأساسية.
1/5/1998