عندما تتعرض الشعوب إلى ضغوط شديدة في مسيرتها، يقتصر تفكير أبنائها على الوسائل التي تخلصهم من تلك الضغوط، دون أن يجدوا مجالا للتفكير أبعد من ذلك إلا في حالات قليلة لا تعد قياسا للتعميم، وهذا أمر ينطبق على كل شؤون الحياة وبينها السياسة، وينطبق أيضا على كل الشعوب، وبينها الشعب العراقي الذي أبتلي بأقسى أنواع الضغوط في مجالات حياته السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية التي كانت بمستوى من الشدة دفعت عموم العراقيين إلى التفكير فقط بكيفية التخلص من صدام سببا مباشرا لتك الضغوط، وعندما وصلوا إلى طريق مسدود في مجاله قبل العديد منهم "نفسيا" فكرة العون الأجنبي للتخلص منها، وإن كانت الوسيلة حربا أعتقدوا أنها ستسهم في إزالتها، ضغوط أستمرت لخمس وثلاثين عاما متصلة.
إن حالة الترقب التي يعيشها العراقيون مع قلق الحرب المحتملة، وآمال الخلاص ستسهم من جانبها مع تلك الضغوط المذكورة بحصر التفكير بالحاضر دون الإمتدادات إلى المستقبل أي ابعد من مجرد التغيير، الأمر الذي يحتم التنبه إليه والحث على التوسع في التفكير بأمور قد لا تقل أهميتها عن حدث التغيير منها شكل النظام الذي يناسب العراق بعد سقوط النظام.
وهنا لا نريد مناقشة الجوانب القانونية أو الشرعية لطبيعة النظام جمهوريا كان أم ملكيا، وما نود طرحه من وجهة نظر منطقية أمرا ذو صلة بالنظام الذي يصلح فعلا إلى حكم العراق، ومناقشته تتأسس على التدقيق علميا بطبيعة المجتمع العراقي وتركيبته الاجتماعية وشكل النظام الذي يلائمها، وفي إطارها يؤكد الواقع أن هذه التركيبة تتشكل من أقوام مختلفة، وطوائف دينية متعددة، ومن عشائر متنوعة مستويات تجانسها ليست متساوية، وأكثر تلك المستويات ضعفا في وقتنا الراهن ما يتعلق بالجانب الطائفي الذي أخلَ في العقود الأخيرة بطبيعته، من خلال دفع العراقيين إلى العودة للطائفة أساسا لتحديد الولاء، بعد أن تركوها زمنا طويلا كان فيه الولاء للعراق وطنا للجميع، ووصلوا إلى حال أخذوا يسألون بعضهم البعض عن المذهب الذين ينتمون إليه، في حين لم يكن هذا موجودا من قبل.
لقد تم التمييز بين العراقيين في أكثر من مناسبة على الأساس الطائفي في الوظيفة، والمركز والجاه بقوة أستثارت كل الموروث الحضاري السلبي في الجانب الطائفي عبر مئات السنين، وأعادت إلى سطح العقل الجمعي العراقي كثير من المفاهيم غير العقلانية، وأكثرها خطورة تلك التي تتعلق بأحقية حكم العراق وعلى أساسها تعممت بعض التصورات عند السائرين باتجاه التغيير واللذين ينتظرونه منها على سبيل المثال:
يرى الشيعة أنهم الأغلبية في التوازن السكاني بالمقارنة مع الآخرين من سكان العراق، مما يعطيهم الحق في أن يكون الشخص الأول أي الحاكم منهم حصرا، في الوقت الذي يشعر السنة أنهم الأكثر سعة في التوازن السلطوي، مما يؤهلهم إلى تقديم الشخص الأول كما هو معمول به منذ مئات السنيين.
هذا نوع من التناقض يؤشر ضعفا في التجانس بدء أكثر وضوحا في تفكير وسلوك العراقيين في هذا الفترة الزمنية التي تسبق التغيير، يمكن الاستدلال عليه ببساطة من خلال النقاشات الجانبية، وأسلوب إدارة ونتائج المؤتمرات التي تعقدها القوى السياسية العراقية المعارضة، حيث يجاهد البعض لتحديد الحصص، وهامش التواجد أعلى سلم القيادة على أسس التركيبة الاجتماعية "الطائفية".
الأمر الذي يدفعنا إلى سؤال أنفسنا قبل أن نصل إلى خط البداية سؤالا مفاده:
إذا كنا لا نملك سوى الكلام، والتحرك في الدهاليز المظلمة داخل المؤتمرات للمشاركة في رسم المستقبل، وقد استخدمناهما بكل ما أوتينا من قوة لتحديد الحصة الطائفية، والمصلحة الذاتية، فكيف الحال إذ ما أمتلكنا السلاح داخل الوطن لما بعد التغيير؟
وقبل أن نُفصل الإجابة باتجاه إحتمالات استخدام الوسيلة غير المناسبة "المتاحة" لتحقيق الغاية المطلوبة، نرى وكأننا عدنا بتاريخنا إلى عام 1919 يوم كان النقاش محتدما بين علية القوم في العراق قبل الحكم الوطني حول من سيحكم العراق، يوم فشلوا في الاتفاق على أحد من العراقيين لأسباب عدة أهمها الولاء الطائفي، لكنهم وبدلا من الاستمرار بالنقاش والتناحر على موضوع لا يمكن حسمه دون خسارة ذهبوا إلى الحجاز مستعينين بالملك فيصل الأول ليكون ملكا على العراق، حلا منطقيا لمشكلة لم تسلط عليها الأضواء بشكل كاف في حينه، وفي عودتهم سؤل أحدهم لماذا فيصل بن الحسين بالذات فكان جوابه أنه هاشمي ينتسب إلى آل البيت، ترضاه الشيعة ولا تثير اعتراضا على حكمه، وهو سني المذهب يقبله السنة، ويدعمون حكمه للبلاد.
وتمت الموافقة ونصب فيصل ملكا على العراق، واسهم نسبيا ذاك الزمان في محاولة توجيه الولاء من الطائفة باتجاه العراق وطنا للجميع، دون أن ينتقص من قيمتها وأساليبها في العيش والتفكير، ونجح بقدر معقول.
لكن المشكلة عادت إلى السطح ثانية بعد الحكم الجمهوري الذي عمل جميع رؤساءه إلى تحويل الولاء من العراق إلى الفرد الحاكم، والحزب الحاكم، وزادت تعقيدا عندما أفاق العراقيون في السنوات الأخيرة فوجدوا أن الولاء للفرد الحاكم لا يمنحهم الأمن والاستقرار، فارتدوا إلى القبيلة والعشيرة، والطائفة كخيارات بديلة تسببت من بين أمور عدة في توسيع هامش الاختلاف.
من هذا نتلمس أن التقرب إلى تسمية رئيس للعراق يثير جدلا، وخلافا حتى بين أربعة من المتحاورين إذا ما كانوا من طائفتين مختلفتين، ونتلمس أيضا أن العراقيين ورغم مساحة معارضتهم إلى صدام حسين لم يستطيعوا أن ينتجوا رمزا يتوحدوا من حوله، ويمنحوه الولاء الوطني.
ونتلمس كذلك أن اللذين أنخرطوا في العمل السياسي (مع قليل من الاستثناء) ووضعوا أنفسهم في مقدمة القوم مضحين من أجل التغيير وإقامة النظام الديمقراطي، يلجئون كل مرة يلتقون فيها لمناقشة توحيد الجهد السياسي إلى أسلوب القيادة الجماعية، وكأن الاتفاق على قائد واحدا بات أمرا مستحيلا، وحتى في قيادتهم الجماعية نرى وبشكل واضح محاولات التوافق الطائفي المخل قد أنتقل شأنها إلى الأطراف الأجنبية في تعاملها مع القضية العراقية حيث تدور النقاشات في دهاليزها عن التمثيل الشيعي والسني، وأحيانا العربي والكردي والتركماني، والآشوري في كل مجمع وحوار.
إذا ما وضعنا التعقيدات أعلاه أمامنا بعد أن يتم التغيير، وبعد التخلص من الضغوط والإفاقة من صدمة التغيير، سنجد أن الكثيرين منا، سوف يوافق أو يرفض إذا ما أتيحت له فرصة أختيار الرئيس ليس على أساس الكفاءة، والتضحية، والنزاهة، ونكران الذات، بل وعلى الأصول الطائفية، والعرقية حيث الاعتقاد أن الولاء لها أي للطائفة كفيل بضمان الأمن الشخصي.
وهذا اضطراب يدفعنا إلى التفكير جديا بالكيفية التي يمكن فيها تجاوز هذا التعقيد بأقل الخسائر، ويدفعنا التفكير المنطقي للعودة إلى عام 1919، ومسألة أختيار الملكية الهاشمية حلا يرضي غالبية الأطراف وبأقل خسارة ممكنة.
هذا ومن جانب آخر فإن الملكية ليست حلا مناسبا للولاء الطائفي فقط، وإنما حل لخطر الوراثة الثورية في النظم الجمهورية التي أستشرت عربيا في الزمن الراهن بعد مساعي العديد من الرؤساء إلى تدريب وتهيئة أولادهم على شؤون الحكم، وهم بعدهم لم يكملوا الدراسة الجامعية حتى أصبح هذا الاستشراء مرض معد يخل كثيرا في شؤون الحكم ويزيد من تعقيدات الولاء إلى الدولة والوطن، لكنه مرض أقل تاثيرا على المجتمع في النظام الملكي لأن الوراثة فيه دستورية، والانتقال بالحكم إلى الوريث يتم عادة دون أية خسائر في شؤون الحكم أو في موضوع الولاء.
من هذا نرى أن التفكير بمرحلة ما بعد التغيير منذ وقتنا الراهن ضرورية، خاصة في موضوع الحكم الملائم إلى العراق، قبل أن نجد أنفسنا أمام حراجة الوقت أو القبول باستمرار حكم الأجنبي كحل لعدم الاتفاق على الحاكم العراقي.
ونرى أن من غير المنطقي الانتقال بصيغة القيادة الجماعية من مرحلة المعارضة إلى مرحلة الدولة، ومن غير المعقول أن تحكم صيغة المحاصصة بين الشيعة والسنة، والعرب والأكراد خطوات أختيار الحاكم القادم في العراق.
هذا بالإضافة إلى أن عملية التغيير من الملكية إلى الجمهورية قد تمت عن طريق العنف الثوري، واستخدام القوة لفرض واقع تسبب في إدخال العراق في دوامة العنف لأكثر من نصف قرن، وهو الأمر الذي يستحق التوقف عنده وعند آثاره السلبية مع بداية التغيير والشروع بإعادة البناء.
ويستحق التفكير جديا بالملكية الدستورية شكلا لنظام الحكم المستقبلي في العراق الجديد. أمر يمكن أن تتم مناقشته ومن ثم التصويت عليه أصوليا.
25 شباط 2002