عام
1. يتكون الأمن الإنساني في أي مجتمع من المجتمعات من إمتدادات أهمها ما يتصل بالسياسة فيعبر عنها بالأمن السياسي، والأخرى بالاقتصاد فيعبر عنه بالأمن الاقتصادي، والثالثة بالحالة النفسية العامة للمجتمع فتوصف بالأمن النفسي، أو الاجتماعي، وهذه إمتدادات أي تكوينات للأمن تؤثر الواحدة منها بالأخرى وتتأثر بها للحد الذي يمكن فيه القول أن اضطراب الوضع السياسي في البلد يؤثر مباشرة على حالها الاقتصادي، واضطرابهما معا يؤثران حتما على الوضع النفسي المعنوي للمجتمع حيث التوتر وعدم الاستقرار وربما القلق والكآبة، والعكس صحيح أيضا إذ أن المجتمع الذي يعاني أفراده من خلل في الجوانب النفسية أو تصدع في المفاهيم القيمية، سوف لن يكون قادرا على صنع سياسة مستقرة للبلد أو من إنتاج اقتصاد يأمن حاجات الإنسان في العيش بالمستوى المطلوب.
مفهوم الأمن
2. الأمن مصطلح تم اشتقاقه من التأمين أي الحماية، والحماية تعني الحيلولة دون حدوث الخلل أو الاضطراب أو التهديد بحدوثهما.
أما الأمن النفسي في بحثنا هذا فيقصد به مجموع الضوابط والقيم والمفاهيم المتاحة في العقل الجمعي التي تساعد الأفراد والجماعات في التعامل مع الضغوط الموجودة بما يحول دون إحساسهم بالعيش في حالة التوتر والاضطراب.
واقع الأمن النفسي للمرأة في العراق
3. إن التقدير الأولي لمستوى الأمن النفسي للمرأة العراقية في وقتنا الراهن يدفع إلى مناقشة موضوعه من الجوانب الآتية:
أ.الجانب القيمي
القيم موجهات للسلوك أدركت البشرية معطياتها من خلال التفاعل الاجتماعي طويل الأمد، خضعت فيها للتأطير والتعديل والتحوير حتى وصلت إلى مستوى من القبول أو الرفض يدفع الغالبية إلى الالتزام بها كمعايير تمثيل نفسي داخل الفرد لآثار المجتمع والثقافة وهو تمثيل يحدد الاستعداد للتصرف بشكل معين يلتزم بحدوده الناس أو معظمهم فيشكل نظامهم القيمي، الذي دعمت وجوده الأديان السماوية وعززته الأقوام والجماعات والهيئات والمؤسسات والمنظمات بمستوى قلل نسبيا احتمالات التباين والاختلاف والصراع في النفس البشرية، سعيا لأن يعيش الإنسان بقدر معقول من الرضى والاتزان"الأمن".
ولا نريد في بحث بسيط مثل بحثنا أن نسطر جل النظام القيمي العراقي لكننا يمكن أن نستنتج من خلال ما يحيط بنا من أحداث:
أولا. إن تحولات في المفاهيم قد حدثت في العقود الأربعة الأخيرة، كان ابرزها وضوحا وتأثيرا على السلوك:
ثانيا. نتيجة لتكرار مسارب تلك التحولات وأخرى غيرها لفترة طويلة بدأت تتلاشى من النظام القيمي العراقي أو تضعف تدريجيا العديد من القيم الضابطة إجتماعيا مثل الألفة والمودة والتسامح وحسن النية وروح الجماعة والتضحية، وبسبب هذا الضعف أحس الكثيرين بالتوتر، والرغبة في ترك المكان "الوطن" وإحتمالات الضياع، الأمر الذي مهد إلى مزيد من الانحراف باتجاه السلب لمستوى أثار الفوضى والاضطراب وعدم الارتياح لشريحة ليست قليلة من المجتمع العراقي.
ثالثا. إن الانحراف الذي بدأ في المجتمع العراقي ساعد الخلل في الجانب السياسي والاقتصادي على زيادة شدته مما أدى إلى تصدع النظام القيمي، وفي ظله تم تناسي معايير الحرام وساد التجاوز على المال العام، واختلت الروح الوطنية، وتدنت مستويات الأمانة والاستقامة والتواصل والتواد والتراحم، وغيرها من معالم التصدع التي شعر بسببها الغالبية بالتوتر وعدم الاستقرار أي اضطراب الأمن النفسي.
رابعا. إن التصدع الحاصل في النظام القيمي إذ لم يتم التنبه إليه سريعا سيؤدي إلى زيادة التطرف في سلوك العراقيين سواء على المستويات العشائرية أو المذهبية أو الفكرية وفي مجالات التعامل البيني.
خامسا. إن التطرف في مجتمع تحتل فيه المرأة الدرجة الثانية بعد الرجل سيهدد حتما مستقبلها السياسي بشكل مباشر إذ إنها وفي ظل ساحته ستكون هدفا لبعض إتجاهاته في العزل والإقصاء من جهة، وستكون غير قادرة على المنافسة عضويا ونفسيا من جهة أخرى.
ب. المرأة في عقل الرجل الحاكم.
إن الحضارة العربية وبينها العراق منذ تكوينها قبل الإسلام حضارة ذكورية كان فيها الرجل واضعا أو مهندسا لدور المرأة في حياة أراد فيها أن تكون بالمرتبة الثانية، فيها سياقات التعامل بينهما:
... الخ من السياقات غير المنطقية دفعت إلى أن يكون دور المرأة طيلة الفترة الزمنية السابقة ربة بيت، تابعة، وأداة متعة جنسية، ووعاء للتفريخ.
لكنه وبعد الإسلام الذي يعد قفزة حضارية في حينه، جرت محاولات لتغيير وضع المرأة خاصة في مجال المساواة بالذنوب، وتخليصها من الوأد، وإلى حد ما الأمل بحياة أفضل ما بعد الموت، لكنها محاولات أصطدمت ثانية بسلطة الرجل الذي أحتكر الدعوة والقتال، والتفسير، فدفع إلى إبقاء دورها كما هو دون ما تغيير، وأبقى صيغته ماثلة في عقل السلطة الرجولية الحاكمة، الأمر الذي يستنتج منه:
أولا. إن المرأة وبسبب صورة دورها المخزونة في ذاكرة الرجل قد تعرضت إلى الاضطهاد والتجاوز على حقوقها الإنسانية والسياسية.
ثانيا.إن التحسن النسبي البسيط الذي طرأ على حالها في مجتمعنا العراقي خلال القرن الأخير كان بسبب الحراك الاجتماعي العالمي ومعالم التطور اللتان غيرتا قليلا من صورتها في عقل الرجل محليا.
ثالثا. إن صورة دورها الموجودة في عقل الرجل جعلها أكثر عرضة للتأثر بالتقلبات والاضطرابات السياسية ودفعها إلى أن تعيش حالة قلق وعدم استقرار لمعظم فترات حياتها.
رابعا. إن التغير السياسي المفاجئ في المجتمع العراقي بعد 9/4/2003 سوف لن يغير سريعا من طبيعة الصورة الداخلية للمرأة في عقل الرجل الحاكم في الدولة والعائلة والعشيرة والبيت، لأنها صورة فيها قدر من الثبات يحتاج تغييرها إلى تعلم واكتساب وإزالة مفاهيم وقيم وإلى ظروف سياسية واقتصادية ملائمة، وإلى إنفتاح أكثر على العالم المتحضر، وإلى وقت كاف لتعزيز اكتسابها.
ج. المرأة في عقل المرأة العراقية.
إن دور المرأة في الحياة تكّون من تفاعل عاملين أولهما التركيبة العضوية، وثانيهما البيئة المحيطة، وبسبب سيطرة الرجل في البيئة المحيطة كانت نتيجة التفاعل ليس فقط الاستسلام للواقع المفروض بل تكوين صور خُزنت في عقل المرأة ليست صحيحة سواء للرجل الذي بدا فيها متسلطا أو لها شخصيا حيث الاستسلام مما دفعها إلى الشعور بالتبعية، والإذعان، وعدم الرضا ومن ثم الإصابة بعقدة الرجل، حاولت التخلص من ضغطها عبر الزمن فلم تجد مناص إلا التمني في أن تنجب الرجل، لكن هذه العقدة التي خف تأثيرها في المجتمعات الغربية نتيجة التطور والسعي إلى المساواة بقيت تحكم سلوك المرأة الشرقية وبينها العراقية، ودفعت نسب ليست قليلة من النسوة* إلى أن تكّون أفكارا أو صورا عن أنفسهن تتمحور حول:
أولا. أنها وجدت أساسا للبيت وللعيش في داخله من أجل إسعاد الرجل.
ثانيا. أنها غير قادرة على مجاراة الرجل في كثير من مناحي الحياة.
ثالثا. إن استقرارها النفسي في الزواج وعلى أساسه بات الزواج هدف يسبق في سلم الأولويات التحصيل العلمي والكسب المادي، والمركز السياسي.
رابعا. إنها تصلح لأعمال دون أخرى.
خامسا. إنها المعيار الوحيد للشرف، وسلوكها محسوب ومراقب من الجميع.
إن الصور التي كونتها المرأة عن نفسها مسألة نفسية ثقافية إذ إننا نرى وفي التعامل الاجتماعي أن البعض من النسوة يشعرن بتشوه هذه الصور، والبعض الآخر يحاولن تعديلها في حين لا تتحسسه أخريات بنفس المعالم والدرجة، وهذا أمر يزيد من التعقيد ويضع العراقيل أمام النساء الرائدات في المجتمع العراقي في أن يحققن للنساء العراقيات اللواتي يشكلنَّ النسبة الأكبر من عدد السكان بالمقارنة مع الرجل في العراق الحالي، أهدافهن في الإسهام بالعملية السياسية، خطوة صحيحة لتجاوز الاضطهاد والحصول على كامل الحقوق أسوة بالنسوة في المجتمعات الغربية، وبالسرعة التي يقتضيها التطور الحضاري في عموم كرتنا الأرضية.
الاستنتاجات العامة
4. مما ورد أعلاه يمكن استنتاج الآتي:
أ. إن التغير السياسي في العراق بعد 9/4/2003 أوجد فرصة أمام المرأة العراقية في أن تقتحم العملية السياسية وتشارك فيها على الرغم من الفرص الذي كونها للرجل في ذات الوقت ليضع العراقيل أمام مشاركتها الجادة .
ب. إن قوة الدفع التي حصلت عليها المرأة بعد التغيير للمشاركة في العملية السياسية لم تكن قد جاءت من خلال قوتها في الساحة السياسية والاجتماعية بل فرضت من الخارج ضمن الشروط الحضارية للتغير، وهذا واقع جديد يتطلب التمسك به بقوة في الوقت الحاضر على وجه الخصوص لأن التأخر أكثر مما يجيب يتيح الفرصة للتيارات المضادة للمشاركة في ن تضع العراقيل التي يمكن أن تعيدها إلى ما قبل خط البداية.
ج. إن عملية التغيير التي جرت في العراق لم تكن متجانسة سياسيا فهناك أطراف داخلها لبراليون يؤيدون نظريا حصول المرأة على حقوقها، وهناك إسلاميون محافظون يحاول بعضهم عرقلة ذلك عمليا، وآخرون متطرفون سيقاتلون ليس من أجل حرمانها من النزر اليسير الذي حصلت عليه عبر العصور، بل وإعادتها إلى محيط البيت خادمة جاهلة لا حول لها ولا قوة.
د. إن التغير الإيجابي "نسبيا"قد حصل في الجانب السياسي، أما الجانب الاقتصادي فلم يحصل فيه التغيير المطلوب، وعلى العكس منهما كان الأمر في الجانب النفسي إذ شهد النظام القيمي العراقي مزيدا من الخرق والتصدع، وهذا يعني أن الأمن الإنساني العراقي في وقتنا الراهن يقّيمُ مضطربا الأمر الذي سينعكس سلبا على محاولات المرأة في تحقيق ما تصبوا إليه في المجال السياسي.
هـ. إن المرأة في العراق طيلة العقود الثلاثة التي سبقت التغيير كانت تعاني أسوة بالرجل من الاضطهاد السياسي، وعدم فسح المجال لنمو معرفتها في السياسة والحقوق، والمساواة، وبذا لم تستطع أن تنشأ قيادات نسوية قادرة على أن تتحمل مسئولية الإسهام بكفاءة في العملية السياسية حسب النسب التي فرضتها ظروف التغيير من الخارج.
المقترحات
5. إن الصراع في المجتمع العراقي بين الرجل والمرأة لم يحسم تماما لصالح الرجل، إذ ما أخذنا بنظر الاعتبار أن عالم اليوم سوف لن يكون فيه العراق معزولا ، وإن وسائل التقنية جعلت العالم يقترب في أن يعيش قيما مشتركة، وإن المعوقات التي حالت دون حصول المرأة العراقية على حقوقها السياسية لا يمكن أن تصمد إلى أبد التاريخ، وعلى هذا يمكن للمرأة أن تستغل الظرف الحاصل الآن من أجل تحقيق أهدافها في المشاركة السياسية لإعادة بناء العراق الديمقراطي، التعددي الموحد وفي هذا المجال يمكن اقتراح الآتي.
أ. استثمار المرأة العراقية عدم إصابتها بداء الذات المفرط كما هو حال الرجل العراقي، والتوجه لتوحيد جهدها المتاح في أقل ما يمكن من التنظيمات النسوية.
ب. أن تجند كل طاقاتها للكتابة، والنشر، والتأليف في مجالات تغيير صورتها في عقل الرجل، وكذلك في ذاتها الشخصية.
ج. استثمارها قوة الدفع التي تحققت أثناء عملية التغيير لصالحها في تحديد نسب المشاركة في العملية السياسية قانونيا، وعدم التنازل عنها تحت ضغط عدم وجود الإمكانات في الوقت الحاضر.
د. الانفتاح على الهيئات والمنظمات النسوية والبحثية العالمية، وتطوير العلاقات معها من أجل إيجاد برامج تطوير كفاءة المرأة وتسهيل عملية مشاركتها في العملية السياسية بأقل الأخطاء.
هـ.تشجيع وتعزيز سلوك القدوة والرمز نسويا بهدف تسهيل عملية الحشد اللازم للطاقات والتقليل من تأثيرات مرض التشظي "الذي أصيب به المجتمع العراقي بعد التغيير" على فاعلية المرأة في الحصول على حقها في المشاركة بالعملية السياسية أسوة بالرجل.
و. إسهام متخصصات في مجال علم النفس والتربية وإعداد المناهج مع المتخصصين من الرجال في عملية إعادة تأهيل مناهج الدراسة لكافة المستويات وبما يضمن تغيير صورتها في عقل الرجل مستقبلا، وكذلك في التمهيد لقبول أوسع لمشاركتها في العملية السياسية وفي مجالات الحياة الأخرى المتعددة.
ز. التركيز على الجيل الشاب من النساء في تحمل المسئولية السياسية والقيادية لمرحلة العمل الحالية والمستقبلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إن هذه النسب تقل عادة كلما صعدنا إلى الأعلى في السلم الثقافي والتحصيلي.
المراجع
1. الجنرال جان بيريه (ب.ت) الذكاء والقيم المعنوية.
2. سعد العبيدي ( 2003) أزمة المجتمع العراقي، قراءة نفسية في التدمير المنظم، دار الكنوز الأدبية، بيروت.
3. علي الوردي ( 1969) لمحات اجتماعية من تاريخ العراق، بغداد.
البحث قدم في مؤتمر للمرأة عقد في بغداد يوم الأربعاء 16/6/2004