قراءة سياسية نفسية لأربعة سنوات محن في عراق ما بعد التغيير
بسم الله الرحمن الرحيم
لَو أطّلَعتَ عَليهِمْ لَوَليتَ منهم فِرَاراَ
صدق الله العظيم
إلى كل روح أزهقت غدرا بعد التغيير
إلى وطني الذي مزقت أوصاله أطراف التغيير
إلى عائلتي التـي لم يجتمع شـملها بعـد التغيير
أهدي جهدي
آملا في أن يسهم مع غيره في الخروج من دوامات التغيير
التقديم
في التغيير لا شيء يبقى على حاله ، والتغيير حالة لابد منها، صحيح أن التغيير يغرز أظفاره أحيانا في اللحم والعظم ويأكل العظيم والوضيع بنفس الطريقة وعلى نفس المنوال وبالوحشية ذاتها، ولكن التغيير حالة لازمة للوجود الإنساني، فمنذ الأزل كان الناس يتغيرون ويتبدلون ويتلونون في طباعهم وأثوابهم وأذواقهم ، فما كان بالأمس جميلا مستحسنا، صار اليوم قبيحا مستهجنا، وما كان اليوم لذيذا مستساغا ضار قد يكون غدا غثا رديئا.
التغيير هو الذي يسميه الشعراء الزمن الرديء، والحق إن التغيير سنة من سنن الكون، لاشيء يبقى على حاله حتى الحجر والشجر بيوتنا وأحلامنا وأوجاعنا وأورامنا كلها تتبدل ولولا التغيير لكنا حتى اللحظة نرتاد الكهوف ونعتاش على الحشائش ، ولما خطر في بال أحدنا يوما أنه سيكون بمقدورنا أن نتخطى في معرفتنا حدود القرية التي نعيش فيها.
وبغداد التي تتحول، والناس الذين يأكلون فيها بعضهم بعضا سيكون من بينهم من أرهقه السكوت، ومن ألجمه الخوف، ومن ركض مع الراكضين يسرق مع السارقين، وتاجر مع المتاجرين ولا بد أن يبق منهم ولو بعدد أصابع اليد، من لا يأكل السحت، ولا يعلم أولاده النفاق والرياء والكذب الأبيض والأصفر والبنفسجي، ولا بد أن يكون من هؤلاء من يحب جاره ويدافع عنه حتى لو كان من طائفة أخرى ودين آخر وكوكب آخر، ولا بد أن يكون هناك ـ على عوزهم ـ من يَصِلونَ أرحامهم وجيرانهم وأصدقائهم.
ولو أن الناس جميعا سايروا موجة التبدل والتحول لما كان هناك تغيير، فالتغيير في علمنا هو التوليفة بين الفكرة ونقيضها، والتغيير على ذلك هو وليد الأضداد، والأضداد في بلادنا صاروا أكثر من الرمل والحصى وأكثر من القمل والجراد، والسياسيون صاروا أكثر من هؤلاء وهؤلاء.
ومع ذلك يبقى التغيير شيء مرغوب فيه رغم الجرح النازف من أقصى حافات الرمل إلى آخر بيت قرميدي على ضفة النهر.
ولكن التغيير المرغوب فيه ليس التغيير المفاجئ، فهذا الأخير خطير على الماء والهواء، والبشر والحجر ونتائجه أكثر خطورة على النسل والحرث ، خصوصا إذا صوحب بعصبة من اللصوص التائبين الذين يتسللون على غرف نومنا وسراويل أولادنا ومدخرات نسائنا جاءوا ليسرقوا كل شيء حتى عرائسنا وطبولنا ووسائدنا، يساندهم نخبة من أهلنا وعشيرتنا وأبناء عمومتنا فماذا يكون حالنا، وكل خطوة يخطونها بجنازيرهم وجنازير من معهم تجلب لنا العار قبل الخراب.
ترنيمة حزينة... ولكي تقرأ هذه الترنيمة الحزينة في كتاب الدكتور سعد العبيدي عليك أن تكون مستعدا للصرخة بأعلى صوتك، ليس مستهجنا ولا مستنكرا ولا متألما بل حائرا خائفا مترقبا لأن ما تضمنه الكتاب أكثر من كثير، ولولا علمي أن الدكتور سعد العراقي بالأصل والفصل، إنه أمين في النقل والتحليل لقلت أنه يكتب شيئا من الخيال العلمي، والإحداث والوقائع والشواهد التي يرويها لا يمكن أن تكون إلا في الأساطير وحكايات الجن، ولكنها تحدث هناك، على مقربة من تمثال أبو جعفر المنصور الذي نهب مع المنهوبات وقرب ساحة الفردوس حيث أسقط الغزاة تمثال آخر الخلفاء وآخر الطواغيت أو آخر الفرسان، وعند ضفتي دجلة المتقابلتين المتجاورتين لآلاف السنين ، وفي ماء النهر الذي كان يروي الناس فصار يرتوي منهم.
لماذا كتاب كهذا يُقرأ ؟ ... لولا إني أحترم التوثيق والتأصيل والتحليل وأحترم حق الأجيال القادمة في معرفة ما جرى ويجري في بلادنا بأمانة وموضوعية، لأوصيت القارئ أن يمزق هذا الكتاب مرة وإلى الأبد و يرمي به في النهر ليكون جثة بين الجثث.
فما بين دفتي هذا الكتاب لا يشعرني بالحزن فحسب، ولكن بالخزي من أبناء جلدتي الذين يأكلون بعضهم بعضا كالحيات... فما يدريني من هو هذا "المجاهد" الذي يتنزه على الجسر الحديدي أحد أجمل جسور بغداد وينسفه مازحا وهو يدري أن الجسر لم يكن يوما سنيا ولا شيعيا ولا حتى كرديا، ولا ندري من أخترع هذه الأكذوبة الطائفية الكبيرة، وصنف الناس مذهبيا، ولكنها لعبة السياسة والسياسيين والغرباء وأولاد المتاريس والمباغي والمنافي .
ولو كان الأمر غير هذا لكانت دمعة أحدهم بحجم جبل حزنا. ولكن أنصتوا إلى جسر الصرافية المذبوح من الوريد إلى الوريد والمصلوب على "الدجلة" كما يقول أهل المدائح ويقول الدكتور سعد (والحكاية ليست على الجسر) عقود وصفقات بملايين الدولارات، فيها نسب للأحزاب والحركات التي تتوسط لعقدها فسحبت السياسيين إلى ساحة التجارة وشؤون المال وأقنعتهم بنظرية التبادل الودي للمنفعة فأسسوا سوية أول بوادر الفساد.
إذن لابد للجسر أن يموت مخنوقا أو مشنوقا أو مخطوفا، لكي يقولوا ها نحن نقوم بأعمار العراق، بدولار ونصف لأعمار الجسر وبمليون دولار ونصف حصة اللصوص من الإعمار .
لا نريد جسرا مخطوفا ولا مصلوبا ولا معطوبا، ولا نريد خبزا مسموما، ونشارة خبز صدام كانت أطهر ألف مرة من بياض خبز اللصوص والقراصنة وبائعي الضمير الذين يستنزفزن دم أطفالنا ليطعموا به أطفالهم الذين حصنوهم بعيدا في المنافي والمباغي والقبور، هؤلاء هم الذين علموا الشرطي النظيف أن يتحول إلى حارس للمجرمين حتى يتمكنوا من الإجهاز على ضحاياهم، هم الذين علموا أطفال العراق "الأحلى والأنفى بين أطفال الكون" كيف يرقصون على جثث المغدورين في الشوارع المهجورة، وهم الذين علموا أشباه الفقراء على النهب لأنهم كانوا أول الناهبين.
هم الذين قتلوا العلماء ظهرا وشردوا الأطباء والمهندسين وأصحاب الحرف النبيل، وهم الذين أجهزوا على شيخوختي وتركوني مرميا في آخر أصقاع الأرض وهم الذين أسسوا للفساد كما يقول الدكتور سعد . لا شيء إلا لأنهم جياع وجيوبهم مليئة، جياع وقصورهم عامرة، يملكون كل شيء ولا يملكون شيئا، ومع ذلك ما زال في بلادنا بقية من أولئك الرجال الذين لا يقتلون على الهوية، ولا تزيغ أبصارهم حفنة من الأوراق الشيطانية الخضراء ولا يتآمرون على اغتيال الجسر الحديدي لأنه نقطة الوصل بين الرصافة والكرخ ، ولديهم حصانة ضد الرياء والحسد والغدر والتهجير والتفجير.
في هذا الزمن الرديء ، زمن الغثيان والهذيان والتمحور والتبعثر والتلون والتدني، لم يبق أمام المثقفين وأهل الضمائر إلا أن يكتبوا لا لكي يغيروا مسيرة التردي والتسربل والتغربل، بل للتذكير والتحفيز ولكي لا يقال لم يعد في العراق حد من أهل الطهر والنقاء.
مرة أخرى أقول لو كان بمقدوري أن ألقي بجثة هذا الكتاب في النهر لفعلت ، لما يشعرني بالخزي مما يفعله بعض أهلنا ببعضهم، لكني أدرك قيمة هذا الكتاب بشواهده وأحداثه التي تدمي القلب، وقيمة الكتاب ليست في الشواهد ذاتها، ولكن في تحليلها نفسيا واجتماعيا وعسكريا وسياسيا، فالدكتور سعد عاش بين علمي النفس والاجتماع أكثر مما عاش بين العسكر، ورغم إنه وصل إلى رتبة فريق في الجيش، ولكنه فريق في علم النفس والاجتماع أكثر منه فريق في الحرب والضرب. وقد ساهمت تحليلاته المعمقة وسرده الإيقاعي السريع في إضفاء نوع من السلاسة والعذوبة على كل ما في الكتاب من علم وفن.
الكتاب أكثر من وثيقة تاريخية، وأكثر من تحليل تخصصي.
إنه باختصار شديد، مزيج من العلم بفنون الحرب والإدارة والتعبئة وعلم النفس والتاريخ والأدب أيضا، ولكن حذارِ أن تقرأوه!!
الدكتور
فجر جودة النعيمي
لندن 2/5/2007
خلاصة لمحتويات الكتاب
أخذ الكتاب عنوان (دوامات المحنة) بافتراض أن الإحتلال، ومن ثم التغيير وإدارة الدولة العراقية، ومواقف دول الجوار، وخصائص العراقيين، وعوامل أخرى كونت وضعا أصبح فيه العراق ساحة إحتراب طائفي، وتدمير حضاري يسهم في ساحته عديد من الأطراف الخارجية والداخلية تصرفوا جميعا حسب أهدافهم الإستراتيجية، والتعبوية، وارتكبوا أخطاء وتجاوزات وضعتهم خلال السنوات الأربعة في دوامات محن لا يمكن التنبؤ بنتائجها عليهم وعلى المنطقة بوجه العموم.
إن الكتاب بأبوابه الثلاثة يتناول وقائع، وأحداث حصلت، وأساليب أتبعت في التعامل مع موضوع العراق للفترة من 9/4/2003 إلى 9/4/2007 عُرضت بشكل دقيق تأسيسا على يوميات كتبها المؤلف، ومصادر رجع إليها ومن ثم جري تحليل للأسباب التي دفعت إلى ارتكابها، من وجهة نظر نفسية سياسية، والآثار المستقبلية التي يمكن أن تتركها على العراق، دولة ومجتمعا.
يتألف الكتاب من أبواب ثلاثة في بابه الأول جوانب المحنة مقدمة تعطي تصورا عن وضع العراقيين قبل الحرب، ومديات انتظارهم فعل التغيير أملا في العيش حياة أفضل، وهي مشاعر أمل اختلطت بعدم الارتياح، والخوف والتوجس من حاضر مؤلم، ومستقبل مجهول فكونت خليطا من المزاج بدء مقلقا بعد عدة أشهر من التغيير.
وفي مقدمته تأكيد على أن وقوع الحرب كان محتوما لحسابات دولية، وداخلية لم يقاتل فيها الجيش العراقي كما هو مفروض مع بعض الاستثناءات بسبب الاعتقاد بأن الآتي من زمن، ونظام حكم، وسبل عيش تقل فيها الضغوط، والمخاطر.
ولم تقاتل الجيوش الداعمة من القدس، وفدائيو صدام، وغيرها لأسباب تتعلق بالخواء الذي أصاب النفوس، والرغبة في ترك القائد وحيدا في أرض المعركة، وكثرة الأخطاء في مجال العمل، والتعامل.
ولم يقاتل متطوعو الحزب أيضا بعد أن أُفرغَ الحزب من مناضليه الذين توزعوا بين الجيش العراقي الأصيل، وجيش القدس الرديف، وفدائيو صدام ضباطـا، وآمرين، وقادة مناطق، وهيئات ركن لم يبقِ هذا التورع، والتوزيع في الجهاز الحزبي إلا القليـل مـن العقائديين، وجدوا أنفسهم مع الأيام الأولى للحرب أن ظهورهم مكشوفة، والأمل في الصمود ميئوس منه، وإيقاف جيوش المحتلين تكاد أن تكون مستحيلة.
والأجهزة الأمنية التي أعدت إعدادا متميزا لثلاثة عقود، ودعمت بخيرة الحزبيين، والقريبين الموالين، وبأحسن العقول، وُجهزت بأحدث التجهيزات، ومُولَت بأكثر قدر من الميزانية العامة للدولة أول من أصيب بالإحباط بعد القيادات العسكرية، وهيئات ركنها التي أدركت المصيبة، وهول الكارثة القادمة، وخطأ القرار في مواجهة أقوى دولة في العالم مدعومة بعديد من جيوش الحلفاء، وهو مستوى من الإحباط أشعرهم بالعجز من تنفيذ خطط درسوا جوانبها جيدا، والقيام بعمل دربوا للقيام به، وصدمة وجدوا فيها أنفسهم غير قادرين على القتال.
أن التغيير الذي أستغرق واحد وعشرون يوم قتال فيه الكفة ليست لصالح النظام وصدام أحدث صدمة تسببت في حالة ذهول، لعموم العراقيين وجدوا فيها أنفسهم بلا قيود كانوا تعودوا العمل بوجودها في السابق.
لقد دامت حالة الذهول بما لا يزيد عن ثلاثة أشهر بعد حصول التغيير كان السلوك العام فيها متجها فقط إلى لملمة الجراح السابقة، والكسب من أموال الدولة السائبة، والاستحواذ على بعض ممتلكاتها المباحة، والتوجه البسيط إلى أخذ الثأر، وتصفية الحسابات، ومد النفوذ السياسي للقادمين من الخارج أحزابا وحركات سياسية جديدة ألتف حولها سريعا آلاف من الذين يفتشون عن فرصة سانحة، ودور في النظام الجديد، وكذلك الساعين من الداخل.
لقد انتهت الأشهر الأولى، وانتهت معها حالة الذهول، وفاق الجمع العراقي من الغيبوبة المؤقتة أو الصدمة التي كانت نفسية، حقيقية، شديدة، مهدوا بسلوكهم الناتج عنها، والذهول إلى أكبر عملية اضطراب في الأمن والسياسة، والقيم الاجتماعية في تاريخ العراق، وربما على مستوى العرب، والمنطقة التي يقع فيها العراق بالعصر الحديث.
إن الفصل الأول في هذا الباب الذي أخذ عنوان الهدم فيه مبحثين يقدم الأول نظرة عامة لخليط المشاعر التي تكونت بعد الإفاقة من صدمة التغيير حيث القلق من المجهول في التعامل مع الأجنبي الذي لا يمكن الاطمئنان له، ولا التكهن بأهدافه البعيدة، والدهشة من سرعة التخلص من ضغوط كانت مسلطة على العقول لعشرات السنين متفاعلة مع لذة التخلص من عبئ الماضي، وأمل التطلع إلى مستقبل يفترض أن يكون أحسن بضوء المعلن من الأهداف، لقد كان خليط من المشاعر أو بمعنى أدق مزيج من فرح بالخلاص" من الديكتاتورية" وغصة من فعل التخلص " على يد الأجنبي" وأمل في التحقيق "الديمقراطية"، حتّمَ الموقف النفسي في ذلك الزمن المضغوط اختلاطها بسبب صدمة التغيير، لكن غير المنطقي في مجاله أن ينكفئ بعد التغيير مباشرة العديد ممن حمل مسئولية إدارة الدولة، والمجتمع على أنفسهم، ويتوجهوا لإشباع حاجاتهم النفسية، والمادية التي شعر بعضهم أنه قد حرم منها لعديد من السنين، فنسوا أو تناسوا دون عمد أن الخطوة الأولى باتجاه قيادة البلد نحو التحقيق الأفضل للمستقبل الآمن، والسيطرة الفعلية على المجتمع القلق هي إعادة التجانس النسبي لذاك الخليط.
والمبحث الثاني فيه تفصيل عن الوضع الاجتماعي العراقي بعده مجتمعا مثل غيره من المجتمعات فيه منظومة قيمية عامة"رغم تصدع بعض جوانبها" يشترك فيها الجميع من الأبناء على وجه التقريب، وفيها من العادات، والتقاليد التي تتفرد فيها جماعة دون أخرى الأمر الذي جعل التعامل فيما بينها من جهة، وبينها وبين الآخرين من القريبين والبعيدين "الأجانب" من جهة أخرى يختلف من جماعة إلى ثانية في بعض الأحيان، وهذه مسألة عمقتها الظروف السياسية التي مرت بالبلاد منذ العهد العثماني، وما بعده الانتداب البريطاني، والحكم الملكي، والجمهوريات المتعاقبة بعد عام 1958 والتي دفعت الأساليب المتبعة في التعامل أبناء التركيبة الاجتماعية العراقية العامة إلى أن يختلفوا بالنظرة إلى مواضيع مهمة مثل الحكم، والدولة، والأجنبي من حيث الرفض، والقبول، وسبل الاتصال، وإدامة التواصل، وبالمحصلة تكونت آراء، واتجاهات لم تكـن موحـدة في هذا الجانب.
الفصل الثاني من هذا الباب الذي أخذ عنوان الفوضى فيه خمسة مباحث يشير الأول إلى طبيعة الخسارة الموجودة بالرجوع إلى بعض أعمال القتل، والاختطاف، والتهجير، والفساد، والاستنزاف، والتجاوز التي قام بها أشخاص عاديون، وعصابات، وأحزاب، وكتل سياسية، وهي أنواع من الخسارة التي حددت مستوى المشاركة، والدافعية في مسألة إعادة بناء الدولة، وأخلّت بالحالة النفسية، شكّلتْ أنواع من السلوك المثير للاضطراب الأمني بعد أن توافقت في حدوثها مع كثرة الأخطاء التي ترتكب في الشارع من قبل سالكيه، ومن قبل المعنيين بضبطه على حد سواء.
والمبحث الثاني يتناول فعل التدمير الذي يتعلق جانبا منه بالنمو المستمر للمخالفة، والتجاوز، وبتقوية القائمين عليها من جهة، وبالضعف المستمر لأجهزتها الأمنية، ومؤسساتها الاجتماعية الداعمة، والهبوط الملموس للمعنويات، وقلة الاستعداد، والدافعية، للمساهمة في إعادة هيبتها، ودعم الخطط الأمنية من جهة أخرى.
والجانب الآخر بالتوجه الذي يقترب من أن يكون منظما، وعامـا للابتعاد عن مركز الدولة إلى خارجه بالتوافق مع الطروحات التي شاعت للتنحي عنها صوب الإقليم الفيدرالي المتجانس بعيدا عن هموم الغير، وتوجهاته التي لا تنسجم، وكذلك لا تتوافق مـع واقـع الحـكم الجديد، ولا مع استحقاقات الديمقراطية كما هو مطلوب.
وتناولت المباحث الأخرى الجريمة التي زادت نسب تكرارها، وضعفت عوامل ردعها، فتكونت بسببها وعوامل أخرى مجتمعات منتجة للجريمة المنظمة، ومرتع للعصابات المختلفة لو تمت متابعة التطور التقني، والنفسي لها سيجد المتتبع أنها باتت تتصاعد بشكل يتناسب طرديا مع اختلال الأمن، وضعف أجهزة الدولة الضابطة، والإدارية.
إن أوجه القصور في مسألة التعامل مع الجريمة ومسارات الخطأ، والاضطراب الأمني الناتج عن تدني مستوى الأداء، وقلة الخبرة عند القيادات المعنية بفرض الأمن، وتأمين الضبط الاجتماعي، وعن عامل السلاح من الناحية الكمية والفنية غير المناسبة للتعامل مع عدو في ساحة قتال داخلية معقدة أدخلت العراق في حالة في دوامات فوضى لم يكن الأداء في ساحة القتال هو العامل الوحيد في تكوينها بعد أن اشتركت معها عوامل تأثير أخرى مثل الشعور بتفوق الخصم، والتعامل غير الصحيح من الأعلى، والإحساس بالوحدة في ساحة القتال.
أما الفصل الثالث والأخير في هذا الباب أخذ عنوان الأمن الاجتماعي، فيه ثلاثة مباحث تتناول الأسباب الاجتماعية، والنفسية لحصول حالة الخلل، والاضطراب الاجتماعي التي عمت البلاد والتي تتمحور حول:
1. الاستعداد القيمي المسبق عند إنسان هذه البلاد لقبول القيام ببعض الأعمال غير المألوفة لو أخذ النهب في مجالها مثالا على سبيل الاستدلال بعد أن شكل أول بادرة خرق للأمن الاجتماعي أثناء، وما بعد التغيير، وقورنت بعض وقائعه التي حصلت خلال وبعد 9/4/2003 كنوع من أنواع السلوك التي تحدده بعض القيم، وكذلك بعض أحداثه مع وقائع في التاريخ العراقي الحديث، سيجد من يقوم بالمقارنة أنه سلوك تكرر في المجتمع العراقي مرات عديدة.
2. فقدان القدرة على التدخل من قبل المؤسسات الدينية، والهيئات الاجتماعية، والمنظمات المدنية التي اعتادت التدخل في أمور الناس بوسائلها المختلفة لتعزيز الإيجاب من خلال التوجيه لتقليل التباين، والاختلاف، والتصارع في النفس البشرية، والمساعدة في التهدئة سعيا منها لتقديم العون إلى الإنسان في أن يعيش بقدر معقول من الرضي، والاتزان"الأمن" ذلك النهج الذي سلكته كل المجتمعات البشرية وسار عليه المسلمون، ومن قبلهم المسيحيون، واليهود، وغيرهم عبر مراحل الزمن المختلفة، وتعطل في العراق بوقتنا الراهن إلى المستوى الذي لم تعد فيه المؤسسة الدينية تمتلك قوة الدفع الكافية لتحوير السلوك السلبي مثل القتل، والاختطاف، والتعذيب، والاغتصاب، والابتزاز، والاعتداء إلى السلوك القويم مثل التواد، والتراحم، والتسامح، والاحترام لبعض الفاعلين في ساحة القتال الطائفي.
3. ضعف النضج السياسي الذي تؤشر الوقائع والتناقضات التي حصلت منذ الأيام الأولى للتغيير أنه أي الضعف قد أخل كثيرا في المعايير والقيم المطلوبة لبناء دولة ديمقراطية بالمفهوم الصحيح للديمقراطية، وتسبب في ارتكاب الكثير من الأخطاء، والتجاوزات التي أدخلت البلاد في محنة الاضطراب، والتوتر الطائفي التي يقربها يوما بعد آخر إلى الحرب الأهلية، والمستوى المتدني للنضج السياسي هذا لا يشمل الناس العاديين، ولا المستويات، والشرائح الوسطى، والأعلى منها فقط، وإنما يمتد إلى أعلى المستويات إلى القادة، والحكام أنفسهم ليخلقوا بوجوده مشاكل لهم حيث المصاعب في الإدارة، والفشل في تلبية الحاجات المطلوبة منهم.
الباب الثاني للكتاب، مسارب المحنة، يحتوي على ستة فصول لأوجه الوقائع والأحداث التي جرت في العراق.
يعرض الفصل الأول التصدع الحاصل في الجانب القيمي العراقي حيث التحوير، والتغيير الذي شمل قيما يمكن عدها الأكثر تأثيرا على الأداء والسلوك، والأقرب إلى مسألة التأثير على الأمن الاجتماعي لأهل العراق، وهو تغيير يرجع في العديد من جوانبه إلى عدة عقود مضت بعد التحولات السياسية التي حصلت خاصة بعد 1979، وقادت إلى تغييرات كثيرة، وسريعة اجتماعيا شملت معظم معالم الحياة العراقية أسهمت في التأثير المباشر على المفاهيم القيمية باتجاه التصدع الذي كون مفاهيم قيمية جديدة أو عزز أخرى كانت موجودة مثل:
1. النفعية بمستوى من السعة حدا بات فيه الجار يستبيح دار جاره مبررا سلوكه بوجود الجار في الجانب المذهبي الآخر، وأحقيته بالاستفادة من الظرف المواتي للنهب، ويحل الصديق ما لدى صديقه الساعي إلى الهجرة من أثاث، وموجودات، ويساومه على الثمن مؤكدا بكل صراحة أنه الأولى باستثمار الفرصة من الغير، أو يسهم بقتله والاستيلاء على ما عنده من موجودات.
2. الابتذال الذي ضعفت بوجوده الخشية أو تلاشت على وجه التقريب من قواميس التخاطب كمعايير قيمية إذ لم يعد التجاوز على المال العام عيبا، ولا الكذب عيبا بعد أن أنتشر بشكل مريع حتى لم يتورع السياسي أن يكذب، والصديق من بيع صديقه إلى عصابة أو مجموعة مسلحة لقاء ثمن، ولم يتأخر بن المحلة من تزويد المليشيات التي تهاجم المنطقة بالمعلومات.
3. الضبابية التي تكونت إثر تعزيز السلوك الخطأ عن طريق المباركة، والتشجيع من قبل العائلة والجماعة سحبت الجمهور نحو التوسع بارتكابه، وقربته بالتدريج إلى حافات الخلل الذي غلف مفهوم الحرام نزولا من القائد السياسي، والإداري في المفاصل العليا بعد أن استغلا مواقعهم الوظيفية، والقيادية نزولا إلى حارس يساوم على اختطاف طفل في مدرسة يحرسها.
4. التيه الذي حصل بعد التغيير عندما أراد الجميع التخلص فجأة من ضغوط كانت موجودة، فاندفعوا للخروج من سورها في زحمة وبدون تنظيم كل في الاتجاه الذي يراه كفيلا بتخليصه من ويلات الضغوط المؤلمة، بطريقة تنم عن التيه في التوجه، والمسير.
الفصل الثاني في هذا الباب يتناول الطائفية كمفهوم يعبر عن الجانب الانفعالي لمصدر التسمية "الطائفة" الـذي يشير إلى الانحياز في الولاء إلى الجماعة أي الطائفة التي ينتمي إليها المعني، والتعصب بالضد من الأخرى، التي كونت اختلاف انفعالي قوامه اصطفاف شيعي من جهة، وسني من جهة أخرى، يعود إلى الولاء الذي أجتزئ من الوطن إلى الجماعة الفرعية"الطائفة"، وهذا الخلاف والحكم المسبق بعدم الاتفاق، مع الأفكار التي تكونت بسبب الأحداث، والموروثات الحضارية حَمَلت في طياتها مشاعر بالضد باتت تميز اللقاءات التي تجري على مستوى الناس العاديين، والسياسيين المشاركين بالحكم، وغير المشاركين تتعلق بجدل انفعالي حتى على المسلمات، والبديهيات، أسهمت مراحله المتقدمة في تكوين النفرة في النفس العراقية التي بدأت تدفع إلى سلوك الانتقام بمستوى من التكرار يدلل على:
أن أبواب الفتنة قد فتحت في العراق.
وإن عواقب فتحها لم تتوقف عند شخص هنا أو عائلة هناك، بل وامتدت لتحرق بنارها الداعين، والمحرضين، والمستفيدين، وكثير من الأبرياء والمتقين، وهدمت معاولها بيوت، ومناطق عامرة، ومدن مشيدة.
إنها فخ قد نصبه الغير لأهل العراق فوقعوا فيه ليخربوا بلدهم بأيديهم عن طريق الإيحاء.
الفصل الثالث الذي يحمل عنوان التناشز المعرفي يبين بمباحثه الخمسة عودة البعض من السياسيين المشاركين في الحكم للعمل بنفس أسابب، وقناعات المعنيين بالحكم السابق وذلك بطـرقهم علـى ذات الخصائص السلبية في الشخصية العراقية، والتعامل مع واقع إدارتها بنفس الطريقة التي بدأها صدام قبل ما يقارب الأربعة عقود إذ توجه بعض أطرافها إلى توزيع الهدايا والهبات، وبينها قطع أراضي على موظفين كبار، وبذا سجلت الحكومة إثما بحق الشخصية العراقية وبادرة قوامها أن السيف، والدينار الذي أمتلكه صدام أسلوبا لإدارة الدولة، لو أمتلكه أحد من رجال الدولة في عهدها الجديد لعمل مثلما عمل صدام في نشر الخوف، ودفع الجموع إلى تأييده قسرا تحت بند الحاجة الضرورية، والظروف الطارئة.
إن الملفت للنظر في هذا الجانب تلك النوايا غير الحسنة عند أهل الرأي، وكبار القوم من السياسيين وقد دنت أو اقتربت للبعض من أهل الحكمة، والدين يُقلّبون على أساسها، ويتقلبون تبعا لمصالح الواحد، والفئة دون اكتراث بالغير، وبالمستقبل المنشود حتى أدخل الخطباء منهم الجنة معيارا للرفض، والقبول في مواضيع عدة مثل الانتخاب الذي ناد به البعض وعدا لدخولها أي الجنة لمن يشارك به، وبالمقابل ناد الآخر بالحصول عليها وعدا لمن يقاطع، حتى تحير الجمع المسلم من الأمر ومن الدعوة إلى الجنة في مثل هذا التناقض غير المحسوب فأصيب العقل بالنشوز الذي عزز سلوك الزعامة، والمداهنة، والوهم في الشخصية العراقية السياسية، والعامة فأسهم مع غيره في التمهيد لتفتيت البلاد.
يعرض الفصل الرابع المعنون بالتدليس السياسي بمباحثه الخمسة حالة التردي الحاصل في العمل السياسي كنتيجة حتمية لعوامل خارجية غير مقدور على التعامل معها من قبل العراقيين في الوقت الحاضر، والأخرى الداخلية التي عجزوا بخبرتهم القليلة وولاءاتهم المجتزأة عن إيجاد حلول تناسبها تسبب في وجود مفاهيم يرقى بعضها إلى مستوى القيم أسهمت في زيادة الخلل، وأعاقت خطوات الحكومة، والأحزاب في قيادة عملية إعادة البناء، وفرض الأمن، بعد أن أسست خطئاً على مفاهيم خطأ مثل التسويف"عدم تحمل المسئولية" التي تعززت من خلال العمل على أساس المحاصصة التي وضع فيها الجميع أنفسهم في دائرة المسئولية المغلقة أي الذاتية دون أن يحسبوا ظروف العراق، وحالة الاضطراب التي تفرض تحمل المسئولية الاعتبارية العامة فوقعوا في خطأ كبير زاد من تعقيدات الأزمة فكون حالة:
1. الافتراض، خاصية في العمل أبقت عقلية الحزب القائد سائدة وإن حكمت البلاد أحزاب ستة افترضت أنها الأقوى، والأخلص، والأكفأ لقيادة، واستثمار التغيير في العراق، وأبقت صيغ اتخاذ القرار في مفاصل الدولة أقرب للفردية، وإن استبدلت فيها الفروض من الضرورة الثورية إلى الحاجة الأمنية، وهذه مع التسويف والخطأ في التعامل كونت حالة نكوص أعاد على أساسها البعض إلى الماضي للتعامل مع مواقف الحياة الضاغطة في الحاضر، قد تدفع بوجود ضغوط مضافة بعض الشباب للنكوص إلى المرحلة العمرية التي يتمردون فيها على سلطة الدين، والدولة فيسلكون العكس من أوامر الدين، ونواهيه الشرعية الصحيحة، عندها سيجد من استخدم البندقية لفرض الحجاب، والسروال، وإطلاق اللحى، وغيرها أن الآخرين في الصف المقابل قد امتلكوا البندقية لاستخدامها في التخلص من أوامرهم في الظروف الصعبة، وسيجد الجميع أن الذي يجري في موضوع المغالاة في العودة إلى الماضي لبناء الحاضر فخ منصوب سيكتشف المسلمون، وبينهم العراقيين بعد عشرات السنين أنه قد نصب لهم بإمعان في أتون حرب عالمية ضد الإسلام كانت بعض أدوات التدمير في ساحتها أولئك الذين استخدموا البندقية، والسلطة السياسية لفرض مفاهيمهم السلفية، وأفكارهم المتخلفة على الشباب في غير أوانها.
2. التخبط في السياسة والعمل عند البرلماني، وعند المسئول الحكومي، والجمهور، وهو تخبط أوجد حالة تشكي عند الجميع وإن كان البعض منها غير منطقي، فإنها تعبر عن حجم الخلل في الإدارة العامة، وكون في ذات الوقت إيحاءا مضادا لفعل السياسيين، وسلطة الحكم القائمة، والوزراء المعنيين زاد من أعمال العنف التي لا يمكن التكهن بآثارها المستقبلية.
الفصل الخامس أخذ عنوان الفساد بمباحث خمسة يتناول طبيعته، وبالتأسيس على تعريف البنك الدولي لأنشطته بإساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، وهو في الأربعة سنوات بعد التغيير أصبح آفة مدت جذورها عميقا في بيئة عراقية لم تختلف معالمها بشكل ملموس بين الأمس واليوم، فكان لها أثر في نشره، وإنبات أنواع منه لم تكن موجودة في السابق بجسم الدولة العراقية، والمجتمع إلى مستوى لم يعد فيه أحد من المتابعين في العراق من لم يسمع عن إشكاله المادية حيث الرشوة، والتسابق على الفوز بالعقود، والاستحواذ على الوظائف، والكسب غير المشروع، والإعاقة العمدية للعمل، والتزوير، والتبذير بالمال العام......الخ، وغير المادية حيث المحاباة، وخيانة الأمانة، وضعف الولاء للوطن، والمحسوبية، واللامبالاة، وغيرها أعمال فساد باتت منتشرة على طول، وعرض البلاد.
إن الفساد وبضوء هذه التأكيدات يعد كارثة حلت بين العراقيين، فأوقعت المجتمع، والدولة في محنة يتحمل مسئولية حصولها منطقيا، من حكم البلاد في السابق، ومهد لحصولها بهذا المستوى الخطير، ومن جاء بعده، وعزز من سعة انتشارها لأنه لم يتحرك في مجال الحد منها بشكل صحيح، ولم يحاسب أحدا سار على خطاه.
إن الفصل السادس من هذا الباب ركز على موضوع العدوانية أي الميل لإيذاء الغير أو الذات كانت وما زالت شائعة في السلوك البشري بين الناس، وفي كل الحضارات، وعبر كل الأزمنة أخذت في عراق ما بعد التغيير أوجه عدة مثل:
1. القتل الذي سبق شيوعه نوع من التناحر، والتضاد تطور ليأخذ شكل العنف حد القتل، والتعويق وسيلة لفرض الواقع المطلوب فرضـه، وللتنفيس عـن مشاعر العدوان، والمقت، والكره بعد أن احتلت حيزا كبيرا من تفكير الشباب، وعديد من الشيوخ في المناطق الفقيرة التي تقوى فيها العشيرة، ويزيد فيها الاحتقان الطائفي، ويقل التحصيل العلمي، والثقافي حيث التدخل السافر لكبار السن، والشيوخ في التحريض لأخذ الثأر، والانتقام من الغير الذي شجع الشباب لأن يتمادوا في سلوكهم المخالف.
2. الإزاحة أو الاجتثاث أو الاستئصال التي تعبر جميعها عن طريقة في التعامل للاستحواذ، وأسلوب لتحقيق غاية التفرد، وإبعاد الغير، وهي الآن مشكلة مسئول عـن انتشارها عموم العراقيين خاصة بعد أن تضاءلت الألفة، والمودة، قيم دافعة لسلوك التودد، والاطمئنان، وعم بدلا عنهما النفرة، والعزل، والتوجس.
3. الجلد حالة عدوان تؤشر الأحداث سعة وجودها في المجتمع إذا ما فسر على أساسها الميل للتدمير، والرغبة بالهدم الموجودة في الوقت الراهن مسألة يمتد الجلد فيها إلى خارج الذات أي إلى الآخرين لجلدهم بطرق متعددة بينها الانتقام الذي عززه التخلف في المجتمع، وبالمستوى الذي حصلت فيه أحداث، وممارسات عديدة غير معقولة من وجهة نظر الغير في المجتمعات الأخرى.
4. التجريف التي تؤشر طبيعة الحوادث التي جرت وما زالت تجري في العراق تصنيفه عدوانا بهدف تكوين تجمعات سكانية طائفية يزاد في محيطها عمدا كم الحقد، والنفرة، والعداء بين أبنائها وتوسع قاعدته لزيادة وقع الاقتتال إلى الحد الذي تعجز فيه الحكومة عن السيطرة عليه، وإدارة شؤون البلاد، عندها سيتقدم السلفيون، ويتربع على كرسي الحكم إرهابيون، وتكفيريون يتوجهون على الفور إلى تطبيق الشريعة الإسلامية الخاصة بهم وعلى وفق مفهومهم المتخلف.
أما الباب الثالث فيتناول العوامل النفسية للمحنة في العراق وأحداثها بخمسة فصول أخذ الفصل الأول بمبحثين طبيعة هذه العوامل بالإشارة إلى إن الموقف النفسي الثقافي الذي واجهه العراقيون في عملية الإحتلال سيلا هائلا من الأهداف المتناثرة لا يمكن التسرع في الحكم على آثارها، وتأثيراتها القريبة أو الآنية، ولا ينبغي وضعها في إطار الرفض أو القبول، بل يتطلب النظر إليها نظرة كلية غير منقوصة لأن اختزالها في الكسب دون المخاطر مسألة أساسها خطأ من ناحية، واختزالها أيضا في المخاطر دون الكسب مسألة ليست خطأ فحسب بل وفيها من سوء الفهم، وعدم التقدير الكثير من ناحية أخرى، ومع ذلك ينظر لها من الناحية النفسية أزمة صراع مع الطرف المقابل أي الأمريكان خسر فيها العراقيون، والعرب من قدرتهم في التعامل الصحيح معها نفسيا، تتعلق بعض جوانبها بامتلاك الطرف الثاني أي المُحتَل كل وسائل التأثير المادية مثل الإقتصاد، والعسكر، والصناعة، والنفسية مثل الإعلام، والاتصال أهلته لوضع أهداف قد لا يدرك طبيعتها الطرف الأول فيستمر بسببها في التخبط، وارتكاب الأخطاء التي يستثمرها الطرف الثاني باتجاه تحقيق أهدافه البعيدة على وجه الخصوص.
الفصل الثاني يتعلق بتحديد المواقف النفسية من الحرب، والتغيير الذي حصل في العراق على المستويين الخارجي، والداخلي، وكذلك من الأحداث التي جرت في الأربع سنوات الماضية، وقد تم تناولها كعوامل سياسية، وأخرى اقتصادية، وكذلك دينية مذهبية أفضت تأثيراتها المباشرة، وغير المباشرة إلى إيجاد قناعات أو تغيير اتجاهات ذات أبعاد نفسية، ولأغراض التوضيح تمت الإشارة إلى العامل النفسي المجرد، وفي مجاله تم التركيز على اتجاهات المعنيين بالصراع الدائر على الأرض العراقية لما يتعلق بتقدير الضرر الناجم عن الحرب، والتغيير من وجهة نظره أي العامل النفسي، لأنه تقدير أدى وظيفة نفسية مهمة في الوقوف بالضد أو مع العملية السياسية وما يجري في عموم البلاد.
إن أكثر الأمور تأثيرا على الجانب النفسي هي المسافة النفسية بين الربح، والخسارة وتقديرها التي لم تكن سهلة في حرب غير تقليدية دارت على أرض العراق اختلطت فيها معايير التقييم الخاص بالربح، والخسارة لجميع الأطراف، وتداخلت المسافات النفسية بينهم كثيرا إلى الحـد الذي أثارت فيه اختلاف واضح المعالم حتى بين المتحالفين مع أو بالضد في جوانب الرؤى، والتقدير الفعلي للربح، والخسارة إلى المستوى الذي أضعف الحجة النفسية المطلوبة للتأثير على العراقيين وغيرهم، وهذه مع مشاعر الخشية، والتوجس في هذه المرحلة التقت من الناحية النفسية مع تلك التي كانت قبل وقوع الحرب، وبوجود محتوى أفكار سلبية مسبقة في العقل العربي، وخلل في تقدير الربح، والخسارة كونت وضعا نفسيا في المنطقة فيـه من القلق، والريبة، والشك غير القليل، أستغله المناوئون للعملية السياسية في تحديد أهداف عملهم النفسي باتجاه تضخيم خطر التغيير في العراق.
الفصل الثالث الجهد النفسي وفيه ثلاثة مباحث تناولت تقييم هذا الجهد المتخذ من قبل الأمريكان، والحكومة العراقية، والجهات المضادة.
في جانبه الأمريكي تؤشر النتائج أنه وعلى الرغم من امتلاكهم كل الإمكانات الهائلة من حيث الوسائل، والأموال، والخبرة فإن أمريكا أخفقت في مجال تحقيق الأهداف النفسية على المستوى العراقي والعربي، والإسلامي، وأكثر معالم الإخفاق وضوحا هو عدم القدرة على تجاوز ضعف الحجة، وشدة الإحراج الذي بات يقتحم نفوس العراقيين المتحالفين، والمؤيدين للوجود الأمريكي، والعاملين معه في مشروع التغيير، وإعادة البناء أفرادا، وجماعات، وأحزاب، وهو ضعف قد يتطور عند البعض نفسيا إلى مستوى الشعور بالذنب، ومن ثم التحول إلى الصف المقابل في النقد، وربما الوقوف بالضد إذا ما استمرت معالم الإخفاق على ما هي عليه في الوقت الراهن، أو تطورت إلى الأسوأ في المستقبل القريب.
الجهد النفسي الخاص بالجانب العراقي "الحكومي" الذي يفترض أن يسعى من جهته إلى تحقيق أهداف قوامها منطقيا إقناع الجمهور العراقي بجدية الجهد السياسي الوطني المشارك بالعملية السياسية، والداعم لها خارج المشاركة الفعلية في تحقيق الديمقراطية، وهو جهد لا يوصف فقط بالإخفاق أو التقصير، وإنما بالتأثير المضاد إذ إنه وبدلا من الإقناع بأحقية التغيير، وجدية العمل من أجل الانتقال إلى مرحلة الديمقراطية بعد التغيير، وتبرير بعض جوانب التلكؤ، والخطأ أعطى المعنيون مـن السياسيين المشـاركين بالحكم، والباقين خارجه لأربعة سنوات متتالية انطباعات نفسية سلبية تماما.
أما الجهد النفسي بقسمه الثالث يمكن وضعه في خانة المضاد للحكم الحالي، ولعملية التغيير سواء ذلك الذي يدار على مستوى الدول أو المنظمات من خارج العراق، وداخله، وهذا جهد في معظمه شبه منظم، وله أهداف تقع جميعها ضمن دائرة الإفشال المتعمد لعملية التغيير، وشكل نظام الحكم القائم، ومحاولة إيجاد البديل المرغوب" الملائم من وجهة النظر المقابلة للدولة" وقد حقق بعض أهدافه على المستوى الميداني بالإسهام في خلق حالة التوتر، والإحتقان وجر البلاد إلى حافات الحرب الأهلية التي عجزت الحكومة بجهدها المتاح، وكذلك قوات الإحتلال لإيقاف التدهور المستمر في مجالها حتى تاريخ إعداد الكتاب.
الفصل الرابع في الباب الثالث يتناول التحريض النفسي بأربع مباحث تؤشره من وجهة نظر العمل النفسي إجرائيا باسـتخدام المفردات، والمعلومات المناسـبة بقصـد الحث على القيام بسلوك معين يؤمـن غاية محـددة، وهو من وجهة النظر هذه قد أستخدم بشكل واسع في ساحة الصراع العراقية من دول، ومؤسسات رسمية، ومن أجهزة إعلام، وأحزاب، ورجال سياسة أكثرها تأثيرا تلك التي ترد في الفضائيات التي باتت تتحكم في عرض الأخبار، والحوادث، وإعادة صياغتها بالطريقة التي تجدها ملائمة لتحقيق أهداف تراها مناسبة، ومن بعدها تأتي الصحافة التي وجد فيها البعض من السياسيين مجالا واسعا لتنفيذ توجهات التحريض من خلال المقالات التي تكتب، والعروض، والقصص، والأخبار التي تنشر، وهذه مسالة أخذت في صحافة العراق بالوقت الراهن منحى فاق التحريض المغلف إلى مستوى الإتهام المباشر بظلم جماعة، والتنكيل بأخرى، والتقليل من قيمة مسئول، ورفع شأن آخر بشكل صريح تجاوز الاعتبارات المهنية، وجعل التحريض من أكثر أهداف الجهد النفسي المعادي فعلا، وتأثيرا.
وعموما فإن المؤشرات الأولية لما حصل، ويحصل في العراق يدلل على أن هناك تأثير للعمليات النفسية على ساحته أكثره شدة ما يتعلق بالتحريض، ويدلل أيضا أن أجهزة الدولة لا تدرك طبيعة هذا التأثير، ولا آثاره المستقبلية، بسب عدم امتلاكها أجهزة مختصة للرصد والتحليل، وصياغة مقومات الدفاع، والتحصين النفسي، وبسبب قلة خبرة المسئولين فيها بهذا المجال، وفي الوقت الذي استهدفت العمليات النفسية للتحريض معنويات العراقيين، وأدائهم وقيمهم، لا نجد جهدا مقابلا من قبل أجهزة، ومؤسسات الدولة لرفع المعنويات، وتحسين الأداء، وشحذ الهمم، وترميم الشرخ الحاصل بالوطنية، الأمر الذي فسح مجالا لمزيد من التأثير أنعكس سلبا على مشاريع التهدءة، وفرض الأمن، وإعادة البناء.
الفصل الخامس والأخير في هذا الباب يتناول وصف المخاطر"المحن" التي تلم بالبلاد مع ذكر الأسباب وراء هذه الخطورة مثل أوجه القصور في الإدارة العامة، وسبل التعامل النفسي الخطأ، والتدني في مستوى النضج، وأخطاء الإحتلال، مع التأكيد على أن ما ذكر منها في هذا الفصل وغيره الذي لم يذكر، ومستوى الاحتقان الطائفي، وخطط الخارج غير الممكن إفشالها في الوقت الراهن، وأعمال القاعدة، والقوى المسلحة بالضد، والضعف الواضح في بعض جوانب الحكومة، وقلة الخبرة، وخواء الإنسان العراقي، وقلة معنوياته، وضعف دافعيته للمشاركة في الجهد الحربي لمقاتلة الإرهاب، ومشاريع إعادة البناء، ومستوى الخطأ، والتجاوز في السلوك العام كلها محن يمكن أن تسحب العراقيين إلى أكثرها خطرا وإيلاما هي الحرب الأهلية التي بدأت بعض معالمها تتضح باتجاه خطوات إن تحققت كما هو مرسوم من جهات خارجية، وأخرى داخلية قد تمهد إلى تقسيم البلاد إلى كيانات سوف تعيش أزمات، ومعالم توتر، وإحتراب لعشرات السنين.
إن تطورات الوضع في العراق، وكم المخاطر الموجودة وطبيعتها توحي وكأن أرضه ساحة قتال زرعت فيها ألغام سياسية على طول البلاد وعرضها، قوامها مشاكل أبقيت عالقة من قبل الإحتلال مثل الدين السياسي، وشكل الفيدرالية في الحكم، ومستقبل كركوك، وما يتعلق بتعديل الدستور، ووضع القوات المسلحة.
هذا وفي أطار تقييم المخاطر يمكن القول أن الوضع في العراق كارثة معقدة داخليا، وخارجيا، عصية على الحل من الداخل، وحلها الأكثر نجاحا هو المفروض من الخارج إقليميا، وبرعاية دولية فيها أمريكا أقوى الداعمين، وإن لم تتحقق بهذه الطريقة سيستمر الصراع، والتناحر فترة زمنية أطول، أخطر ما فيه الوضع الذي قد يجد فيه الكثير من أبناء هذا الشعب أنهم قد تعبوا، ويأسوا، وأحبطوا، وطريق الخلاص أمامهم فقط في عزلة عن الطرف الآخر تتم فقط عن طريق الإنفصال.
وفي آخر العرض الخاص تم تقديم بعض الإستنتاجات التي تبين حوادث أربعة سنوات أن هناك محنة في داخلها دوامات يعيشها جميع اللاعبين في ساحة الاحتراب الداخلية بمستويات ضرر، وحيرة متباينة، فالعراقيون وسطها يَقتلون، وُيقتلون وأغلبهم في حيرة من أمر هذا القتل، والتدمير، والتخريب، والرغبة في الإيذاء.
أيدوا، واحتجوا، ولم ينفع الخروج من محنتهم هذا التأييد، ولا ذاك الاحتجاج.
أنتخبوا حسب خطوات العملية السياسية المرسومة، وتبين لهم بعد الحصاد أن الانتخاب لم يخرجهم من دوامة الفرقة، والتوتر، والإختلاف.
والحكومة العراقية بمؤسساتها، وأجهزتها، ودوائرها، وقواتها المسلحة وسط دوامات تسعى، وتتعامل، وتتأمل، وتجد عند التنفيذ أن الأداء يقل عن ما هو مطلوب، وإن الولاء الكفيل بالتضحية من أجل الوطن على الأغلب غير موجود، والإخلاص في العمل لا يؤمن الغاية التي تريد.
تضع البرامج، وتحاول، وتنسق، وتتوعد ويتبين لها في خطوات الشروع الأولى أن حركتها مُقَيدة من مجلس وزراء يعمل بعض أعضاءه لأنفسهم، وأحزابهم قبل العراق.
ومن برلمان أنقسم على نفسه، وأختلف مع بعضه حتى ضعف، ولم يعد قادرا على إعانتها لتصريف شئون البلاد.
ومن قوات إحتلال تطوقها من كل مكان، قادرة على الوصول إلى النقطة التي تريد، والقيام بالفعل الذي ترغب، وإعاقة ما لا تريد أن يكون.
ومن محيط حولها بعض الموظفين يفتي بما يعتقده مفيد، ويشوه من فتوى غيره التي يعتقدها لا تصلح.
والقوى السياسية كذلك علقوا في أكثر من دوامة، يرغبون المشاركة، واستثمار الفرص، ويتنصلون عن تحمل الخسارة المتأتية من التعثر، والإسهام بالفشل.
نادوا بالديمقراطية، والعدالة، والمساواة سبيلا لمجتمع جديد، فكونوا بكثر أخطائهم، وقلة خبرتهم مجتمعات، متناثرة تحلم بالديكتاتورية أساسا للتوحيد.
والأمريكان يبدو في الوقت الحاضر أنهم أيضا في دوامات المحنة بعد أن عجزوا عن إقناع عراقيين يعيشون زمان غير زمانهم بديمقراطيتهم الموعودة وهم لا يعرفون طبيعتهم، وسبل التعامل معهم فوعدوا، وناوروا، فعجزوا أن يحققوا الأمان أبسط مقومات الديمقراطية.
دخلوا العراق محررين، فتصرفوا مثل غيرهم فاتحين، أزاحوا بقوتهم الدكتاتور، والحزب الواحد، فخلقوا بجهلهم مئات الأحزاب، والجماعات التي تتقاتل من أجل أن تبقى في النفوذ، والاستحواذ حزب واحد يفوق في تسلطه الديكتاتور.
ودول الجوار هي كذلك في دوامات محنة يتحسسون فيها الإقتراب من ساحتها مشكلة تضعهم في دائرة الخطر المحتوم، والابتعاد عن محيطها معضلة فيها الخطر شبه محتوم.
دعمت، وساعدت، فأدركت أنها تسهم في إشعال فتنة تقترب من ساحتها القلقة، فزادت من دعمها، وتدخلها في هرولة إلى الأمام أدخلتها جميعا في دوامات المحنة.
إن ما يجري بالعراق في الواقع محنة، وجميع الأطراف المشاركين فيها أدخلوا في دوامات تعصف بهم لمستوى من الشدة قد يخرج بعضهم منها بهيئة غير التي دخلوا بها عندها سكيشف الباقون على قيد الحياة أن الأهداف الإستراتيجية للحرب اقتضت أن يدخلوا جميعا دوامات محن مهلكة لم يستطيعوا أن يخرجوا منها بجهودهم الذاتية.
Abstract of Dawamat Almihna.doc