لا جدال في أن القاعدة باتت بأعمالها، أداة هدم وترويع للمجتمعات العربية والاسلامية، فهي مُخرِبة أينما مدت بأذرعها، ومفرقة أينما حلت بمرابعها، هكذا هو واجبها ودورها في حرب خفية، عَلمِ المَهّووسون في صفوفها أو لم يعلموا، ولا جدال أيضا في إن أعمالها المرعبة في بغداد الثلاثاء الماضي سوف لن تكون الأخيرة لأن المجتمع العراقي أرضا خصبة لمشاريعها، يكثر فيه الخطأ وتتسع فيه مساحة الوهم سواسية بين الحكام والمحكومين، حدّاً، بات من شتم الحاكم السابق سرا يرى نفسه بطلا يستحق الإشادة والتعظيم، ومن رفع صوته بالضد منه جائرا يعتقد أنه مغوارا يستحق المكافئة والتكريم، ومن سُجن لأسباب غير سياسية يظن أن الفرصة متاحة لأن يكون في مقدمة المضطهدين، وهكذا الحال الذي تمتد فيه الأمثلة إلى السياسة عندما يتصور من كّون حزبا أن الوطنية حكرا عليه ومكاسبها حِجزُ مكانٍ في الصفوف الأمامية مع الجالسين، ومن كان له حزبا قبل التغيير يظن أن الثمن حتمي، جلوس في مكان يميزه عن باقي السياسيين، يقوي فيه ركائز كرسيه، ويقوض ركائز الآخرين. حتى أزدحم المكان بالساعين إلى الجلوس في الصفوف الأمامية، وأضطرب الإنسان من كثر النظر إليه مكانا مكتظا يصعب التمييز فيه بين وطني جاد وأنتهازي يستغل المشاعر الوطنية، وفي هذا الأضطراب وسط اللاهثين سعيا أو في ثناياه النفسية أنفعالا، بقي الوطن جريحا يئن من ألم الجريمة البشعة مفتوحا لأعمال القاعدة وفعل العصابات والجريمة المنظمة في كل يوم وكل مكان: كنيسةٌ لأهل البلاد الأصليين تستباح وسط النهار، وبإستباحتها نستنكر ثم ننسى بعدها بأيام هول المصيبة أن نستنكر، وطفلٌ يُختطف للمساومة ليلا وفي النهار ولا أحد يمر على مأساة الطفولة أو يستذكر، وعرضٌ ينتهك للتنكيل في أعلى درجات الحرام ولا أحد يصرخ.
ويئن في ذات الوقت من فرط الخروق الفاضحة للقيم الوطنية: حارسٌ يسرق ما أتمن على حراسته ولا يراقب، وموظف يخون وظيفته ولا يحاسب، وساكن حدود يُسَهل تهريب السموم قتلا لأخوته العراقيين ولا يُسب ، وسياسي يغمض عينيه عن أنتهاك جاره للحدود ولا يُعاتب، وعسكري يعرض خدماته للكتلة السياسية وكيلا بلا أجر ولا يُعاقب.
وهمٌ أو مجموعة أوهام غَلفتْ العقل وأعاقت خطوات التفكير المنطقي كان أشدها وقعا وتأثيرا على الأمن وخروقاته المستمرة، وهمٌ للربح من فعل التغييرٍ الذي حصل عام 2003 وآخر للخسارة يمكن أن يحصل، نَفذت منه القاعدة بابا لإثارة الفتنة الطائفية، وأسست عليه وسيلة كسب فاعلة لأعمالها العدوانية، يوم وجدت أن عراقيو الوسط والجنوب وشماله الكردي أحس غالبيتهم بالربح المطلق من سقوط الدولة البعثية، يقابله في الجانب الآخر في قسم من الوسط وغربه وشماله، إحساس بالخسارة شبه المطلقة من أفول هذه الدولة الشمولية.....إحساسٌ كان مشحونا بقوة دفع إنفعالية، كونت في المناطق التي يشكل كل منهم فيها أغلبية سكانية، إتجاهات عزل وإنعزال نفسية، حفاضا على ما تم تحقيقه من ربح مطلق، وتجميعا للقوى سعيا لتعويض خسارة أصبحت حتمية..... ومشاعرٌ كانت قد أسهمت فـي إثارة المكبوت السلبي في عقول الكثير منا لما يتعلق بالإضطهاد الطائفي والمظلومية القومية، وأعادته إلى ذاكرتنا القريبة مصحوبا بإنفعالٍ أشد عداءً ومقتا طائفيا، وجد في عودته البعض منا تماهيا في العزلة مع الطائفة جغرافيا، وتماشيا مع الإحساس بأهمية الهوية الطائفية نفسيا، وبدء البعض منا الإمعان بالنظر إلى الانتماء للمنطقة الطائفية، مجالا لتعويض الإحساس بالخسارة والتخفيف من مشاعر الخوف من تبعاتها أمنيا، وبقوة توتر دفعت كل جماعة من الجماعات المذكورة لرفض المقابل، ورفض المساومة مع المقابل، والإتجاه إلى العنف والاستقطاب الطائفي سبيلا للتعامل مع المقابل، في ساحة إضطراب أختلط فيها لما يزيد عن السبع سنين الحابل بالنابل.
وهمٌ ليس بعيدا وقوعه عن الحَجّر السياسي أو الاملاءات السياسية نوعا آخرا من الأوهام يحاول بسببها من يقف في المقدمة السير أوحدا بطريقة طوقت تطورنا الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لعشرات السنين، وتسببت في أن تحبسنا في أماكننا نرواح فيها دون ملل، بل ونتخلف في خطانا للمراوحة التي وكلما حاولنا التقدم واحدة نحو الأمام نجد أنفسنا قد أتخذنا عشر مثلها إلى الوراء، فكونا في السنوات الأخيرة أو في زمننا الحالي فراغا للخطى نفذت منه القاعدة لذبحنا على الطريقة الاسلامية السلفية، وتسببت في جعلنا أو في حبسنا نَسبِتُ دهرا خارج الزمن في وضع سمح للقاعدة أخيرا أن تتحرك وتخرب وتقتل بأساليب عنصرية. وسنسبت مثله دهورا تبقى القاعدة فيها تتحرك كما هو تحركها الآن إذا لم تُرفع هذه الوصاية، وينتهي الحجر داخليا وخارجيا، وتنتهي معها مشاريع النهش القائم لبعضنا، ويسمح لدورة حياتنا المعطلة بالتحرك من جديد لتكون قادرة على طرد القاعدة المسئولة أولا عن فعل الاضطراب الأمني، لأن طردها سيكون ناجحا إذا ما جاء من أهل الأرض الخصبة، من العراقيين الذين أصبحوا في السنوات الأخيرة من السبع الماضية هم اللاعبون المنفذون فـي الساحة، المستعدون إلى اللعب بالنيابة عن غيرهم، وهم المستفيدون والمتضررون الفعليون من خلال توجههم الحثيث إلى التقوقع المناطقي والانعزال الطائفي، وتقديراتهم غير الصحيحة للخطر، وطبيعتهم السلبية في التعامل مع السلطة والحكم.
إنه الوهم المدمر الذي لم يعِ طبيعته العديد من المواطنبن والسـياسيين الحالمين وغيـر الحالمين، ولم يدركـوا أن بقائهم في حالته سوف لن يمكنهم من تحقيق غاياتهم في البقاء، وإنه سيكون خطرا يبتلعهم الواحد بعد الآخر وقد يبتلعنا معهم، في خضم أحداث متلاحقة يصعب السيطرة عليها في بحر متلاطم الأمواج مازالت القاعدة من بين أخطر سفنه المبحرة.
هذه هي الصورة أو الجزء المظلم منها في عراق هذا الزمان أو بالمعنى الأدق بعض من الأوهام التي دفعت الكثير منا إلى الجري حثيثا من الداخل "مركز المشكلة" إلى الخارج "مجال الوهم" أي هربنا من المواجهة العلمية الصحيحة للمشكلة بغلاف من الوهم، فأسهمنا بحصول التيه وتعميم التشتت وزيادة العتمة، في وضع خاص بالعراق ألتقت في مجاله الاستجابات وردود الأفعال مع طباع سلبية تفوق تلك الايجابية، وتعقيدات في الادارة، وتجاوزات في مخارج السلوك، وإضطرابات في القيم، وأرتدادات إلى الماضي غير واقعية، وآمال في المستقبل غير مألوفة، وخروقات للنظام غير عادية، وتسابق في السياسة وتدافع في الوصول غير منطقية، وفساد في كل مناحي الحياة كونت حالة إضطراب وجدت فيها القاعدة منفذا، بل وقاتلت من أجل توسيعه دخولا مقبولا لذبح العباد في بلد يسأل أهله مع كل حالة ذبح وخرق وهدم، هل هناك أمل في أنتهاء الغمة والعيش بسلام؟
إن الاجابة عن هذا السئوال المحير تتتعلق بحقيقة أن أنتهاء هذه الحالة يرتبط بزوال حاجز العزلة الطائفية الذي ما يزال بعضه موجودا في نهج التفكير العراقي حتى يومنا هذا، وما يزال العديد من أصحاب الشأن أبقوا بعض مفاهيمه وقناعاته أوهاما لم تمحى من ذاكرتهم تماما، أو إنهم لم يستطيعوا إلغائها حقا، وتتعلق بإعادة أهل العراق لتقييم ما ظنوه ربحا من فعل التغيير أو خسارة له، ومقدار جهدهم المبذول لإنتاج قناعات وأفكار ومفاهيم بديلة عن تلك السائدة، ويتعلق كذلك بجهد لابد وأن يكون مميزا للحكومات التي ستأتي بإتجاه تقليل تأثير هذا العزل تدريجيا، وبكفائتها في إدارة وتحليل الصراع الدائر على أرضها، وبتوثيق علاقاتها المتوازنة مع دول الاقليم من حولها، وإلى أن يتحقق هذا سيبقى العراق مشروع خرق أمني مستمر، وسيبقى العراقيون قرابين على مذابح التطرف الاسلامي السلفي المشبوه.
د. سعد العبيدي
6/11/2010