يثار جدل متعدد الأوجه والاتجاه خلال هذه المرحلة الزمنية الحرجة من تاريخ العراق حول الانسحاب الامريكي من البلاد، وهو جدل يستحق أن يستثار لأهميته وسعة تأثير حصوله من عدم الحصول على حاضر العراق ومستقبله، وبصدده لابد أن يضع المتجادلون وبينهم أطراف العملية السياسية المشاركون بالحكومة وغير المشاركين نصب أعينهم جملة حقائق، بينها الفراغ الذي سيتركه الانسحاب الامريكي الكامل، وإستعداد الدول الأخرى لملأه بالتدخل أكثر في الشؤون الداخلية، ومدى تأثيره على أستقرار البلاد، وبينها استجابة الجماعات والأقوام العراقية للفراغ بالسعي إلى الاستحواذ ومد النفوذ، وإحتمالات أمتداداته إلى المحيط الاقليمي للعراق، وحقائق أخرى كثيرة تتعلق بالاستثمار والتجارة والتنمية وإعادة البناء والحماية وغيرها لامجال لمناقشتها جميعا في مقال واحد، لكننا لو عدنا إلى الحقيقة الاولى ذات الصلة بالاستعداد الاقليمي لملأ الفراغ الامني نجد وبما لا يقبل الشك أن الامريكان في إدارتهم للعملية الامنية وإعادة بناء الجيش قد حدوا من قدراته التسليحية والتنظيمية، فجعلوه غير قادر على التوازن مع الجيش الكويتي أصغر جيوش المنطقة على سبيل المثال، خاصة في مجال القوة الجوية والاسلحة الثقيلة الساندة والاستخبارات، وبالتالي ستكون قدرته وقدرات الدولة العامة واهنة أمام الراغبين في مللأ الفراغ الحتمي الذي سيتركه الانسحاب، وأكثر الدول الساعية في هذا الجانب ستكون إيران لأعتبارات تاريخية ودينية وعوامل صراع نفوذ مع الامريكان والاتراك، في خطوات وإن بدأ بعضها منذ السقوط، ستكون بعد الانسحاب أكثر سعة ووضوحا، وتحديا، مما سَيُعجل من سعي الأتراك لملأ الفراغ أو جزء مهم منه في المناطق الكردية والسنية على أقل تقدير ومعها السعودية ودول عربية أخرى تخشى النفوذ الايراني، ليتكون على الأرض العراقية بحكم الاحتكاك طرفين متصارعين قويين، سيجد الواحد منهم في ساحته أدوات ومؤيدين ومريدين في مناطق الوسط والجنوب بالنسبة إلى إيران وفي شرق الوسط وغربه والشمال بالنسبة إلى تركيا والسعودية، وقد يتطور الأمر إلى قتال بالانابة، سبق للعراقيين الوقوع بفخاخه من قبل ومستعدين للوقوع ثانية وثالثة، وقد يتطور أكثر إلى مستوى الشعور بالعزلة بين المناطق والمذاهب والاقوام الذي يُنشّط فكرة التقسيم ويجعلها حقيقة لابد منها.... دويلات تتقاتل فيما بينها لمئات من السنين. هذا وإذا ما تجاوزنا هذه الحقيقة المرة وأنتقلنا في نقاشنا الى حقيقة الصراع الداخلي الأكثر مرارة، مذهبيا وقوميا ومناطقيا، وإحتمالات أستغلال الفراغ الحاصل من قبل البعض لتحقيق مكاسب على الارض وبين السكان، وبصدده نرى وبشكل ملموس أن المشاكل بين العرب والأكراد باقية حتى الآن، والأخرى بين الشيعة والسنة مازالت ماثلة الى الآن، ووضع المسيحين والصابئة والازيدية قلق لم يصل حد الرضا عن الحال.... ألغام قابلة للتفجير عن بعد بسهولة، وإذا ما اضفنا إلى هذا الاحتمال، أن جميع تلك الكتل البشرية لها أمتدادات في إيران والسعودية وتركيا، إذا ما شعرت إحداها ونتيجة الفراغ الأمني بالتهديد من أي طرف مقابل ستلجأ إلى إحدى دول الاقليم طالبة النجدة والمساعدة، وستحصل عليها ضمن حسابات التهديدات المحتملة للأمن القومي لتلك الدولة، الذي سيجر دول أخرى لتوسيع وجودها في الساحة العراقية لنفس الاعتبارات، وهكذا نعود إلى نفس النتيجة الاولى صراع بين الأطراف الخارجية داخل الأرض العراقية بأدوات قتال عراقية.
إن الأمر في حصيلته معقد إذا ما تم النظر إليه من وجهة النظر النفسية السياسية يتبين أن عدم الانسحاب واقع غير مرغوب به من قبل الايرانيين والسوريين وأطراف عراقية، سيثير حصوله أي البقاء قدرا من التوتر في داخلهم بدرجة تفضي إلى توسيع هامش تدخلهم في الشأن العراقي، والانسحاب التام واقع آخر غير مرغوب به من قبل الاتراك والسعوديين والاردنيين، وأطراف عراقية، سيثير حصوله أي عدم البقاء قدرا من القلق بمستوى يفضي إلى نفس النتيجة "توسيع هامش التدخل". ومع هذا فالحل بأقل الخسائر أمام الطرف العراقي هو إيجاد صيغة إنسحاب في غير إنسحاب أي ترتيبات فنية نوعية خاصة مايهم مصلحة العراق فيها هو أن تشعر الاطراف الاقليمية أن الامريكان موجودون، على الرغم من سحب قواتهم القتالية الرئيسية، وتشعر الأطراف العراقية المتحفزة أن الردع الامريكي وراد من هذا الوجود، وفي نفس الوقت ترضي الامريكان كدولة أحتلال نافذة أقتصاديا وسياسيا وعسكريا، لأن غضبهم غير المحسوب سيتسبب في صب الزيت على النار التي مازالت مشتعلة..... إنها مسألة صعبة يحسد عليها العراقيون قبل الأمريكان أصحاب الحل والنفوذ.