لم تقبل أمة من بين الأمم عبر هذا التاريخ أن يدخل عسكرها السياسة، ويوم سُمحَ بدخولها ثكنات، وتنظيمات الجيش العراقي عبر بوابة الحزب القائد بعد عام 1968، أصبح ضابط الصف ضابطا لأنه عضو قيادة فرقة في الحزب، فهبطت قيمة الضباط، وتدنت مستويات كفاءتهم المهنية، وتردى انضباطهم، وتدهورت ثقتهم بأنفسهم وقياداتهم الأعلى وهيئات ركنهم. وكذلك رقي الجندي إلى رتبة نائب ضابط، وضابط إن كان من أبناء العشيرة، والمنطقة في بعض الأحيان لأنه بدرجة عضو فكان النائب الضابط حلقة زائدة وسمسار مصالح بين الجنود والضباط. وبنفس الاتجاه منحت رتب لمدنين أدخلوا الجيش لأنهم بدرجات حزبية متقدمة، فتعممت كلمة رفيق بدلا من سيدي، وحل الانضباط الحزبي بدلا من الضبط العسكري، فضاعوا، وضيعوا الجيش العراقي في أول مواجهة جادة مع خصم قوي في الميدان.
ولم تقبل أمة أن تدخل الديمقراطية فلسفة، وسلوكا ميادين العسكر، وقيمهم، وتقاليدهم، ويوم توهم البعض من المنتسبين إلى الجيش العراقي الجديد من الجنود المتطوعين، وضباط الصف الأحداث أنهم مشمولين بخطوات إعادة البناء الديمقراطي للعراق، تصوروا وعلى وفق فهمهم القاصر لهذه الديمقراطية الوليدة أن الواحد منهم هو من يقرر المكان الذي يخدم فيه، والسلاح الذي يحمله، والعدو الذي يحاربه، وفي تجربة لتوزيعهم قبل عدة أيام على الوحدات المطلوب إكمال النقص فيها من الأفراد حسب خطة توزيع الوزارة رفض بعضهم هذا التوزيع لأنه توزيع يضعه في منطقة غير منطقته، وعشيرة غير عشيرته، وتمرد البعض الآخر حتى خلع بزته العسكرية أمام الفضائيات التي دخلت إلى المعسكر أو أدخلت تحت بند الانفتاح الديمقراطي الجديد. وهذه في الواقع ليست المرة الأولى خلال السنوات الثلاث التي يتوجه فيها جنود للعصيان، وليست المرة الأولى التي يخل متدربين بمعايير الضبط، والالتزام، لكنها المرة الأولى التي تُصور فيها مثل هذه الأحداث من فضائيات تبثها للعالم أكثر من مرة، وكأنها بهذا البث تريد أن تثبت للعراقيين، وغيرهم أن هذا الجيش الجديد ليس هو جيش العراق، وإن جنوده ليسوا جنودا أكفاء لمقاتلة الإرهاب، وإن مستقبل العمل فيه غير مضمون، والتعويل عليه بحفظ الأمن غير موثوق.
وأي كانت النية من البث فإنه أمر، أو نوايا لا تهم العسكر كثيرا ، وما يهمهم فقط هو أن ما حدث عصيان يستحق التوقف عند جوانبه ذات الصلة بالتدريب الذي يفترض أن يشمل موادً عن الضبط أكثر مما هي عليه الآن، ويتضمن مفاهيم الوطنية التي يفترض أن تلقن لعموم المنتسبين لأنها تصدعت ولم يتذكرها المدربين والمتدربين حتى وقتنا الراهن، وتتخلله محاضرات عن مخاطر الإرهاب التي باتت تدق جميع الأبواب. والتوقف كذلك عند مسألة الاختيار الدقيق لمن يريد أن يكون عسكريا في خدمة العراق، وضرورة إلزامه بالتوقيع قبل القبول على تعهد للخدمة في المكان والوحدة التي ينسب إليها في أية فرقة من فرق الجيش، والأهم من هذا كله هو أن يكون المتطوع خاضعا بالفعل لضوابط الخدمة العسكرية، ولقانون عسكري عسى أن يتذكره المشرعون تحاسب مواده من يتجاوز عليه، ويخل بمعايير الضبط والالتزام، لأن التجاوز، والتهاون في أمر المحاسبة سيغرق الجيش العراقي في أتون الفوضى، والاضطراب التي يحول حدوثها دون إعادة بناءه جيشا يحمي الديمقراطية التي لم يعد يحلم بها العراقيون.
د. سعد العبيدي 4/5/2006