في الأشهر الاولى للاحتلال لم يكن الفرز في المواقف من وجوده سهلا، ولم يكن التمييز في أتجاهات الكتل والأحزاب من العملية السياسية وإعادة البناء وسبل التعامل مع الأجنبي ميسورا، وبسببهما وأمور أخرى كان أتخاذ القرار في العمل بمؤسسات الدولة المطلوب أعادة بنائها ومنها وزارة الدفاع صعبا تسبب في أن يمتنع بعض الضباط من الولوج في هذه المجازفة أي التعيين في هذه الوزارة الفتية، وينتظر البعض فرصة إنجلاء الموقف أي وضوحه ليدخلوا مجال العمل بها في الزمان والمكان الذي يريدون، في حين أقتحم البعض الآخر تلك التجربة المحفوفة بالمخاطر مجبولين بحاجتهم إلى العيش وتحسين الأحوال أو مدفوعين بوطنية حقيقية ومهنية عالية، معتقدين أن الوزارة والجيش والدولة ومن ثم العراق يستحقون جميعا جهدهم وخبرتهم وأخلاصهم في أعادة البناء لمرحلة ما بعد الخراب.
كان الموقف في الأيام الأولى لتشكيل الوزارة وبعض الوحدات صعبا يجلس في الغرفة الواحدة عدة ضباط، من عدة مديريات، يقف بجنبهم آخرين لا يتسع المكان إلى جلوسهم، يعمل بعضهم أي الوطنيين من ساعات الصبح الأولى إلى آخر النهار سعيا لإرساء قواعد صحيحة للبناء، ويغيب بعضهم الآخر أي المنتفعين طيلة تلك الساعات يلف قسم منهم على مكاتب المسئولين في مجلس الحكم وبعض الأحزاب المتنفذة والمؤسسات الدينية، يبتدعون مواقف وهمية مناوءة من النظام السابق، ويستعرضون أعمال بطولية في سجون صدام لم يدخلوها أصلا أو دخلوها صدفة لعدم التبليغ عن صديق تجاوز في الكلام أو لقضايا فساد وأكل الحرام، ويلف المتبقي على موظفي بريمر من الدرجة الثالثة، وعلى قادة المناطق من جيش الأحتلال يستعرضون قدراتهم في اللغة الأنجليزية وقرب تفكيرهم من نهج الإحتلال، وأستعدادهم للتعاون حتى آخر الطريق، يعودون آخر النهار برتبة أعلى من الأستحقاق، وبدرجة وظيفية أعلى من المثبت في الملاك.
وهكذا أستمر الحال في الوزارة التي تحمي البلاد من شر العباد، وأستمر وضع أولئك الضباط والمدنيين الوطنيين مراوحة في ذات المكان ونفس الرتبة والدرجة الوظيفية، وعندما أستفاقوا من غيبوبة الوطنية بعد أربع سنوات وجدوا أن ضابط صف منح رتبة عميد بتوصية من الحزب المعهود، وملازم مجند حصل على رتبة عميد وتبوء منصبا رفيعا خارج الضوابط والقوانين بإيهام الحكومة عن قيامة ببطولات في عالم الأوهام، وعقيد نال رتبة فريق أول بدفع من رجل دين ميمون، وضابط كان مستمر في الخدمة نال كل المكرمات التي منحها صدام، رقيَّ زمن الديمقراطية رتبة أعلى وأجلسَ في المكان الأعلى وحصل على مرامه كـما تقول الأمثال العامية ( مدومن على الراسين)، وموظف بالدرجة الثالثة أصبح مدير عام لأغراض التسوية الطائفية، وآخر جيئ به من البيت عقيدا ليصبح فريقا ويحال على التقاعد بسبب عدم رغبته في الخدمة بالجيش الجديد لأنه من آل ..... ووجدوا أن بيوتا وشققا قد وزعت بالمجان لذات المنتفعين المسنودين، وأولادا قد عينوا موظفين في الملحقيات العسكرية، وإيفاداتٍ تتكرر في الشهر الواحد عدة مرات، لم تشبع الجوع النفسي المتأصل في النفوس حتى حاصروا القادة والمسئولين يقدمون لهم ولاء الطاعة مدحا ومداهنة وطلبا للمزيد دون حياء.
وأكتشفوا بعد الأستفاقة أن أولئك المنتفعين قد حصلوا على تلك المكاسب وما زالوا يحصلون من خلال إتكائهم على الغير من السياسيين والبرلمانيين وقادة المليشيات، وأكتشفوا كذلك أن المؤسسة العسكرية التي تمثل السلطة النفسية للأب العادل في رعايته للأبناء "المنتسبين" قد أنتهت فاعليتها أي ماتت وتركتهم أيتاما يلطمون لطما مع الكبار، ويأكلون مع الصغار أي لطم شمهودة كما يقول المثل العراقي المعبر فعلا عن حالهم وعموم الوطنيين المهنيين المنصفين في هذه الوزارة، وغيرها من الوزارات.
د. سعد العبيدي 23/2007